{بسم الله الرحمن الرحيم} تقدم الكلام عليها، {سبح لله ما في السماوات والأَرض وهو العزيز الحكيم } معنى سبح أي نزه الله - عز وجل - عن كل عيب ونقص، وعن مماثلة المخلوقين، ودليل تنزهه عن كل عيب ونقص قول الله تبارك وتعالى: {ولقد خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } واللغوب يعني التعب والإعياء، وهذا يدل على كمال قوته - عز وجل - وقال تعالى: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } وقال تعالى: {وما الله بغافل عما تعملون } فنزه الله تعالى نفسه عن الغفلة، وقال تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأَرض إنه كان عليماً قديراً } فنزه نفسه عن العجز، ودليل تنزهه عن مماثلة المخلوقين، قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } وأثبت الله لنفسه وجهاً في قوله تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }، وأثبت الله لنفسه أنه استوى على العرش، والإنسان يستوي على البعير، أي يركب البعير ويستقر عليه ويعلو عليه، ليس استواؤه سبحانه وتعالى على العرش كاستواء الإنسان على البعير، والدليل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فكل صفة يثبتها الله لنفسه وللمخلوق مثلها فإن ذلك موافقة للاسم فقط، أما في الحقيقة فليس كمثله شيء، مثال ذلك: أثبت الله لنفسه علماً، وأثبت للمخلوق علماً، فقال الله تعالى: {فإن علمتموهن مؤمنات} فأثبت الله لنا علماً، وأثبت لنفسه علماً {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} وليس العلم الذي أثبته لنفسه كعلم المخلوق والدليل قوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } فالله - عزوجل - لا يمكن أن يماثله شيء من المخلوقات لا في ذاته، ولا في صفاته، ولهذا لا يمكننا أن ندرك الله - عز وجل - نعلمه بآياته وصفاته وأفعاله، لكنا لا ندرك حقيقته - عز وجل - لأنه مهما قدرت من شيء فالله تعالى مخالف له غير مماثل،
وقوله: {ما في السماوات والأَرض} أي: كل ما في السماوات والأرض، فإنه يسبح الله - عز وجل - وينزهه، ويشمل الآدمي، والجن، والملائكة، والحشرات، والحيوانات، وكل شيء، فكل ما في السماوات والأرض يسبح الله، وهل يسبحه بلسان المقال بمعنى يقول: سبحان الله، أو بلسان الحال، بمعنى أن تنظيم السماوات والأرض والمخلوقات على ما هي عليه يدل على كمال الله - عز وجل - وتنزهه عن كل نقص، الجواب: أنه يسبح الله بلسان الحال وبلسان المقال، إلا الكافر، فإنه يسبح الله بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأن الكافر يصف الله بكل نقص، يقول: اتخذ الله ولداً، ويقول: إن معه إلهاً، وربما ينكر الخالق أصلاً، لكن حاله وخلقته وتصرفه تسبيح لله - عز وجل -. وهل الحشرات والحيوانات تسبح الله بلسان المقال؟ الجواب: نعم، قال الله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم} الحشرات كلها تسبح الله بلسان المقال، والحصى يسبح الله كما كان ذلك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم () {وهو العزيز الحكيم } العزيز يعني ذو العزة، والعزة هي الكبرياء والغلبة والسلطان وما أشبه ذلك، فالعزيز هو ذو السلطان الكامل والغلبة الكاملة، فلا أحد يغلبه - عز وجل - يقول الشاعر الجاهلي:
أين المفر والإله الطالب والأشرم المغلوب ليس الغالب
والحكيم لها معنيان: المعنى الأول: ذو الحكمة، والمعنى الثاني: ذو الحكم التام، فهي مشتقة من شيئين: من الحكمة والحكم، فالحكمة هي أن جميع أفعاله وأقواله وشرعه حكمة، وليس فيه سفه بأي حال من الأحوال، ولهذا قيل في تعريف الحكمة: (إنها وضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها)، فما من شيء من أفعال الله، أو من شرع الله إلا وله حكمة، فإذا قدر الله الحر الشديد الذي يهلك الثمار فهو حكمة لا شك، وإذا منع الله المطر فهو حكمة، وإذا ألقى الله الموت بين الناس فهو حكمة، وكل شيء فهو حكمة، والشرائع كلها حكمة فإذا أحل الله البيع وحرم الربا فهو حكمة ، لأنا نعلم أن الله حكيم، ففرق الله - عز وجل - بين البيع والربا، فالبيع أحله الله، والربا حرمه، فإذا قال قائل: لماذا؟ قلنا: الله أعلم، الله حكيم - عز وجل -، ولهذا لما قالت المرأة لعائشة - رضي الله عنها - يا أم المؤمنين ما بال الحائض تقضي الصوم - يعني إذا حاضت في رمضان - ولا تقضي الصلاة؟ سؤال فيه إشكال، لماذا الحائض إذا أفطرت في رمضان يلزمها قضاء الصوم، وإذا تركت الصلاة لا يلزمها قضاء الصلاة، وكلاهما فرض، قالت لها - رضي الله عنها -: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة () » فاستدلت - رضي الله عنها - بالحكم على الحكمة، لأنا نعلم أن الله حكيم - عز وجل - فلم يوجب عليها قضاء الصوم دون قضاء الصلاة إلا لحكمة، لكن أحياناً نعرف الحكمة وأحياناً لا نعرفها، لماذا أحل الله البيع وحرم الربا؟ نقول: لأن الله أحل البيع وحرم الربا، ولذلك لما قال أهل الربا: إنما البيع مثل الربا. رد الله قولهم فقال: {وأحل الله البيع وحرم الربا}، فإذا حكم الله بشيء شرعاً، أو حكم بشيء قدراً فلا يشكل عليك، إن وفقك الله لمعرفة الحكمة فهذا خير، وإن لم تعرف فاعلم أن الله حكيم وله أيضاً الحكم - عز وجل - قال الله تعالى: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه} من يستطيع أن يرفع حكم الله - عز وجل - فيما إذا نزل به الموت؟ لا أحد، قال الله تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونهآ إن كنتم صادقين} لا يمكن، لأن الله حكم بهذا، وإذا حكم - عز وجل - بحروب وفتن من يرفع هذا إلا الله عز وجل، والله تعالى له الحكم في الأمور الشرعية قال الله تعالى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله} فالحكم لله - عز وجل - فإذا عرفت أن الله تعالى له الحكمة فيما شرع، وفيما خلق، وقدر، حينئذ تستسلم ولا تجادل، لأن الذي حكم بذلك هو الله، وإذا علمت أن الحكم لله - عز وجل - بين العباد فترجع الأمور الشرعية، إلى الكتاب والسنة، وفي الأمور القدرية ترجع إلى الله، فإذا حكم عليك بالمرض تفزع إلى الله - عز وجل -، وإذا حكم عليك بالفقر تفزع إلى الله، اللهم أغنني من الفقر، واقضِ عني الدين ، فإذا آمن الإنسان بأن الحكم كله لله إن كان حكماً قدرياً استسلم، وقال: هذا أمر الله، وأنا عبدالله ولا يمكن أن يكون سوى ما كان، وإذا كان شرعيًّا. قال الله - عز وجل - أعلم وأحكم بما يصلح العباد.
{له ملك السماوات والأَرض} أي: لله تعالى وحده ملك السماوات والأرض خلقاً وتدبيراً، فلا يملك السماوات والأرض أحد إلا الله عزوجل {يحي ويميت} أي: يجعل الجماد حياً، ويميت ما كان حياً، فبينما نرى الإنسان ليس شيئاً مذكوراً إذا به يكون شيئاً مذكوراً كما قال تعالى: {هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً } ثم يبقى في الأرض ثم يعدم ويفنى، فإذا هو خبر من الأخبار {وهو على كل شيء قدير } هذه جملة خبرية عامة في كل شيء من موجود ومعدوم، والقدرة صفة تقوم بالقادر حيث يفعل الفعل بلا عجز.
{هو الأَول والأَخر والظاهر والباطن} أربعة أشياء {الأَول} أي الذي ليس قبله شيء، لأنه لو كان قبله شيء لكان الله مخلوقاً، وهو عز وجل الخلق، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم {الأَول} الذي ليس قبله شيء () ، فكل الموجودات بعد الله فليس معه أحد ولا قبله {والأَخر} الذي ليس بعده شيء ، لأنه لو كان بعده شيء لكان ما يأتي بعده غير مخلوق لله، والمخلوقات كلها مخلوقة لله عز وجل، فهو الأول لا ابتداء له، والآخر لا انتهاء له، ليس بعده شيء {والظاهر}، قال النبي صلى الله عليه وسلم : تفسيرها: «الذي ليس فوقه شيء» فكل المخلوقات تحته جل وعلا، فليس فوقه شيء {والباطن} قال النبي صلى الله عليه وسلم « الذي ليس دونه شيء» () أي: لا يحول دونه شيء، خبير عليم بكل شي، لا يحول دونه جبال، ولا أشجار، ولا جدران ولا غير ذلك، ليس دونه شيء، {الأَول والأَخر} اشتملا على عموم الزمان، {والظاهر والباطن} على عموم المكان.
{وهو بكل شيء عليم }، كل شيء فالله عليم به، {إن الله لا يخفى عليه شيء في الأَرض ولا في السماء } فلو عمل الإنسان في جوف بيته في حجرة مظلمة فإن الله تعالى يعلم عمله، بل زد على ذلك أنه يعلم ما توسوس به نفسك كما قال الله - عز وجل -: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه}. وأنت إذا فكرت في شيء فالله يعلم به قبل أن يكون، ويعلم الماضي البعيد، ويعلم المستقبل البعيد ويعلم بكل شيء، ولهذا قال موسى - عليه الصلاة والسلام - لما سأله فرعون: {فما بال القرون الأُولى } يعني شأنها قصها علينا {قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } لا يضل معناه لا يجهل، لأن الضلال معناه الجهل، كما قال الله - عز وجل - في نبيه: {ووجدك ضآلا فهدى } ضال ليس معناها فاسق، بل معناه أنه جاهل لا يدري كما قال تعالى: {وكذلك أوحينآ إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} وقال تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون } إذن الله بكل شيء عليم، وإذا علمت أن الله بكل شيء عليم هل يمكنك أن تقدم على معصية الله وأنت في خفاء عن الناس؟ لا، لأنك تعلم أن الله يعلمك ، قال الله - عز وجل -: {أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم} الجواب: بلى، {ورسلنا لديهم يكتبون }، فإذن إذا آمنت بأن الله - جل وعلا - عليم بكل شيء فإنه يستلزم أن لا تقوم بمعصيته ولو في الخفاء، وأن لا تترك طاعته ولو في الخفاء، ولقد قال الله - عز وجل - عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في ءاذانهم} لأجل أن لا يسمعوا، {واستغشوا ثيابهم} لئلا يبصروا بها - والعياذ بالله - لأنهم يكرهون الحق وقوله: {وهو بكل شيء عليم } يشمل أفعال العباد وأقوال العباد، بل إنه يعلم سبحانه وتعالى ما في قلب الإنسان وإن لم يظهره، كما قال تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد} فإياك أن تضمر في قلبك شيئاً يحاسبك الله عليه، لكن الوساوس التي تطرأ على القلب ولا يميل الإنسان إليها بل يحاربها، ويحاول البعد عنها بقدر إمكانه لا تضره شيئاً، بل هي دليل على إيمانه لأن الشيطان إنما يأتي إلى القلب فيلقي عليه الوساوس إذا كان قلباً سليماً، أما إذا كان قلباً غير سليم فإن الشيطان لا يوسوس له، لأنه قد انتهى. {هو الذي خلق السماوات والأَرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأَرض} خلق السماوات والأرض أي: أوجدها - عز وجل - بكل نظام وتقدير، والسماوات سبع والأرضون سبع، والأرض سابقة على السماء، لأن الله تعالى قال في سورة فصلت لما ذكر خلق الأرض قال: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأَرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتآ أتينا طآئعين}، لكن الله يبدأ بالسماوات لأنها أشرف من الأرض وأعلى من الأرض، والسماوات بينها مسافة بعيدة جداً جداً، وهذا يلزم أن يكون أصغر السماوات سماء الدنيا ويليها الثانية والثالثة، كل واحدة أوسع من الأخرى سعة عظيمة، وهي طباق متطابقة بعضها فوق بعض، وفي حديث المعراج أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلما صعد إلى سماء استفتح ففتح له () ، والأرض جعلها تعالى في القرآن بصيغة الإفراد ، لكن الله تعالى أشار إلى أنها متعددة في قوله: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن} أي: مثلهن في العدد لا في الصفة، لأن التماثل في الصفة بين الأرض والسماء بعيد جداً، لكن مثلهن في العدد، وصرحت بذلك السنة في قول النبي صلى الله عليه وسلم «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه الله يوم القيامة به من سبع أراضين» () وخلقها الله عزوجل في ستة أيام، والأيام أطلقها الله - عز وجل - ولم يبين أن اليوم خمسين ألف سنة، أو أقل، أو أكثر، وإذا أطلق يحمل على المعروف المعهود وهي أيامنا هذه، وقد جاء في الحديث أنها الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة، () فالجمعة منتهى خلق السماوات والأرض ومبتدئه الأحد، والسبت ليس فيه خلق لا ابتداء ولا انتهاء.
فإذا قال قائل: أليس الله قادراً على أن يخلقها في لحظة؟
فالجواب: بلى، لأن أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن. فيكون، وإنما خلقها في ستة أيام - والله أعلم - لحكمتين: الحكمة الأولى: أن هذه المخلوقات يترتب بعضها على بعض، فرتب الله تعالى بعضها على بعض حتى أحكمها، وانتهى منها في ستة أيام. الحكمة الثانية: أن الله علّم عباده التؤدة والتأني، وأن الأهم إحكام الشيء لا الفراغ منه، حتى يتأنى الإنسان فيما يصنعه، فعلم الله سبحانه عباده التأني في الأمور التي هم قادرون عليها، وكلا الأمرين وجيه، وقد تكون هناك حكم أخرى لا نعلمها، ومع هذا لا نجزم به ونقول: الله أعلم {ثم استوى على العرش}، استوى عليه يعني على وجه يليق بجلاله، ولا يمكن أن نمثله بخلقه لأن الله ليس كمثله شيء، والعرش مخلوق عظيم لا يعلم قدره إلا الذي خلقه - عز وجل -، وقد جاء في الحديث: أن السماوات السبع، والأرضين السبع في الكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، الحلقة حلقة الدرع المكون من حلق من الحديد، فالحلقة من الحديد من الدرع تكون بالنسبة للفلاة لا شيء، فلاة من الأرض واسعة ضاع فيها حلقة من حلق الدرع ماذا تكون نسبتها وماذا تشغل من الأرض؟! لا شيء، قال صلى الله عليه وسلم : «ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة» () إذن لا يعلم قدره إلا الله - عز وجل - وليس لنا أن نسأل: من أين مادة الكرسي؟ من ذهب، من فضة، من لؤلؤ؟ ليس لنا الحق في أن نتكلم في هذا. هو عرش عظيم كما وصفه الله {رب العرش العظيم } {ذو العرش المجيد }، عرش عظيم جداً جداً، لا يعلم قدره إلا الله، استوى الله عليه لكمال سلطانه - جل وعلا - و(ثم) في قوله: {ثم استوى على العرش} تدل على الترتيب، أي أن خلق السماوات والأرض سابق على الاستواء على العرش، ومعنى {استوى} أي: على؛ لأن الاستواء في اللغة العربية إذا تعد بـ (على) كان معناها العلو، مثاله قول الله تبارك وتعالى: {وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين}، ومن ذلك قوله تعالى عن نوح: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظلمين}.
فقوله: {استويت أنت ومن معك على الفلك} يعني علوت عليه، إذن {استوى على العرش} يعني على العرش، وإذا رأيت من يقول استوى على العرش أي استولى على العرش، فقد كذب على الله - عز وجل - لأن الله تعالى نزل هذا القرآن العظيم باللغة العربية، واللغة العربية تدل على أن استوى إذا تعدت بعلى فهي بمعنى العلو لا غيره، فيكون الذي يفسرها باستولى كاذب على الله - عز وجل - جانياً على نصوص الكتاب، محرفاً لها، وجنايته عليها من وجهين:
الوجه الأول: صرفها عن ظاهرها.
والوجه الثاني: إحداث معنى لا يدل عليه الظاهر، وهذا قد يوجد كثيراً في كتب الأشاعرة، سواء كانوا مفسرين أو غير مفسرين لكنهم بهذا والله والله والله قد ضلوا ضلالاً مبيناً، نسأل الله العافية، فمن الذي استولى على العرش حين خلق السماوات والأرض؟! إذا كان الله لم يستولِ عليه إلا بعد خلق السماوات والأرض فهو لمن من قبل؟! نعم يلزمهم أن يقولوا لغير الله، وإلا فقد أخطأوا يعني تبين خطأهم وهم مخطئون والحمد لله، {يعلم ما يلج في الأَرض} أي: ما يدخل فيها من جثث الموتى، ومن الحبوب التي تنبت بإذن الله، ومن المياه التي يسلكها الله ينابيع في الأرض ثم يخرجها، وغير ذلك من الحشرات وغيرها، فكل ما يلج في الأرض يعلمه الله.
{وما يخرج منها} أي: من النبات والمياه والمعادن وغيرها، {وما ينزل من السماء} أي: من الملائكة والأمطار والشرائع وغير ذلك، {وما يعرج فيها}أي: إليها، لكن جاءت بلفظ {فيها} بدل إليها لنستفيد فائدتين:
الفائدة الأولى: العروج يعني الصعود.
الفائدة الثانية: الدخول، لأن {في} يناسبها من الأفعال الدخول، تقول: دخل في المكان، أما عرج ويعرج فالذي يناسبها إلى، لكن الله - عز وجل - عدل عن قوله (يعرج إليها) إلى قوله {يعرج فيها} ليفيد الصعود، والدخول.
وضمن يعرج معنى يدخل. والتضمين موجود في القرآن الكريم، وفي اللغة العربية قال الله تعالى: {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً } المناسب ليشرب (من) كما قال تعالى: {يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } يعني منه، {فشربوا منه إلا قليلاً منهم} وهنا قال: {يشرب بها} قال العلماء: الحكمة أن يشرب هنا ضمنت معنى يروى، أي: يروى بها. ومعلوم أنك إذا قلت: يروى بها. فقد تضمن معنى يشرب، وزيادة. والتضمين فن مهم في باب البلاغة، ينبغي لطالب العلم أن يدرسه ويحققه، حتى يستفيد إذا اختلفت الحروف مع عواملها، {يعرج فيها} من الأشياء ما يصل إلى السماء الدنيا ويقف، ومنها ما يعرج في السماء الدنيا حتى يصل إلى الله - عزوجل - {وهو معكم} هو الضمير يعود إلى الله - عز وجل - {معكم} أي: مصاحب لكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل» () لكن هذه الصحبة ليست صحبة مكان. بمعنى أننا إذا كنا في مكان كان الله معنا. حاشا وكلا، لا يمكن هذا، وكيف يتصور عاقل أن الله معنا في مكاننا، وكرسيه وسع السماوات والأرض؟! هذا مستحيل، والكرسي موضع القدمين، كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه () ، فإذا كان كذلك هل يعقل أن رب السماوات والأرض الذي يوم القيامة تكون السماوات مطويات بيمينه، والأرض جميعاً قبضته هل يمكن أن يكون معنا في أماكننا الضيقة والواسعة؟ لا يمكن، إذا {معكم} أي: مصاحب لكم، والمصاحب قد يكون بعيد عنك، يقول العرب في أسلوبهم: ما زلنا نسير والقمر معنا، مازلنا نسير والقطب معنا. ما زلنا نسير والجبل الفلاني معنا، وليس معهم في مكانهم. ومعلوم أن القمر في السماء، والنجم في السماء، والجبل قد يكون بينك وبينه مسافة أيام، ومع ذلك فالعرب تطلق عليه المعية مع البعد في المكان، وكوننا نؤمن بأن الله معنا إذن هوعالم بنا، سميع لأقوالنا، بصير بأفعالنا، له القدرة علينا والسلطان، ومدبر لنا بكل معنى تقتضيه المعية، واعلم أن من الضلال من يقول: إن الله معنا في أمكنتنا، نسأل الله العافية، وينكرون أن الله في السماء عالياً فأتوا داهيتين عظيمتين، الأولى: إنكار علو الله. والثانية: اعتقاد أنه في الأرض. سبحان الله! هل يعقل أن يعتقد عاقل فضلاً عن مؤمن أنه إذا كان في المرحاض كان الله معه؟ أعوذ بالله، الذي يعتقد هذا أشهد بالله أنه كافر، لأن أعظم استهزاء بالله وأعظم حط من قدر الله هو هذا، ثم نقول: إذا كان الله - كما يقولون - في كل مكان يعني أنه في الحجرة، وفي السوق، وفي المسجد، ثم من الذي يكون مع أناس في الحجرة، وأناس في الشارع؟ أهما إلهان؟ لا يمكن أن يقولوا إنه متعدد، هل هو متجزء؟ إذن بطل أن يكون معنا بذاته في أمكنتنا لأنه إما أن يكون متعدداً، وإما أن يكون متجزءاً، وكلاهماباطل، قررت هذا لأنه يوجد من يعتقد أن الله في كل مكان فنقول: المعية هي المصاحبة، ولا يلزم من المصاحبة المقارة في المكان، وكيف يمكن أن يكون الله معك في مكانك وهو سبحانه وتعالى وسع كرسيه السماوات والأرض، ولكن هؤلاء الذين يعتقدون أنه في كل مكان ما قدروا الله حق قدره، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا عرفوا عظمته وجلاله قال الله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره والأَرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويت بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } فكيف يعتقد أن الله معنا في مكاننا، فيجب على الإنسان أن يعرف نعمة الله عليه بكونه يؤمن بالقرآن الكريم ظاهره معظماً لله حق تعظيمه {أين ما كنتم} أي: في أي مكان، لأن أين ظرف مكان {والله بما تعملون بصير } أي: بما تعملون من الأعمال كلها بصير، والبصر هنا يشمل بصر الرؤية قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه: «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» () ويشمل بصر العلم، فمن المعلوم أن أعمالنا قد تكون مرئية الحركة، وقد تكون مسموعة كالأقوال، فرؤية المسموع العلم.
{له ملك السماوات والأَرض} أي: لله تعالى وحده ملك السماوات والأرض خلقاً وتدبيراً، فلا يملك السماوات والأرض أحد إلا الله - عز وجل - لا استقلالاً ولا مشاركة، قال تعالى: {لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأَرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير } فنفى الاستقلال ونفى المشاركة {وما له} أي: ما لله {من ظهير } أي: من مساعد ساعده على خلق السماوات والأرض، فله ملك السماوات والأرض وعددها سبع، قال الله تعالى: {قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم } والأرضون أيضاً عددهم سبع كما جاء ذلك ظاهراً في القرآن وصريحاً في السنة، قال الله تعالى: {الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأَرض مثلهن} يعني في العدد، وثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: «من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً طوقه يوم القيامة من سبع أراضين» () {وإلى الله ترجع الأُمور }، كل الأمور أي الشؤون العامة والخاصة، الدينية، والدنيوية، والأخروية كلها ترجع إلى الله - عز وجل - يتصرف كما شاء يحكم بما شاء ولا معقب لحكمه - عز وجل - فكل أمور الإنسان الخاصة ترجع إلى الله، ولذلك يجب عليك إذا ألمَّت بك ملمة أن ترجع إلى الله - عز وجل - لأن المشركين وهم مشركون - إذا ألمت بهم الملمات التي يعجزون عنها يرجعون إلى الله - عز وجل - فإذا عصفت بهم الرياح في أعماق البحار على السفن يلجئون إلى الله عز وجل،
ويرجعون إلى الله، ويسألونه أن ينجيهم وهم مشركون، فكيف بك أنت أيها المسلم، فالجأ إلى الله في كل صغير أو كبير، ديني أو دنيوي خاص بك أو بأهلك، لا تلجأ لغير الله، فمن أنزل حاجته بالله قُضيت، ومن أنزل حاجته بغير الله وُكل إليه، فنقول: إلى الله ترجع الأمور عامة: الأمور الدينية والدنيوية والأخروية، والخاصة والعامة، وإذا آمنت بهذا ويجب أن تؤمن به صرت لا تلجأ إلا إلى الله - عز وجل - {يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل}، يولج أي يُدخل الليل في النهار، ويولج النهار أي يُدخله في الليل، وهذا يعني اختلاف الليل والنهار في الطول والقصر، أحياناً يبدأ الليل في الزيادة فيدخل على النهار، فهذا {يولج الليل في النهار}. وأحياناً يبدأ الليل ينقص ويزيد النهار، فيدخل النهار على الليل، ولا أحد يقدر على ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، لو اجتمع الخلق كلهم إنسهم وجنهم، والملائكة ما استطاعوا أن يولجوا دقيقة واحدة من الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، والله - عز وجل - يولج الليل في النهار أو من النهار في الليل، ثم هذا الإيلاج لا يأتي دفعة واحدة، ولكنه يأتي تدريجياً شيئاً فشيئاً، أول ما يبدأ بالزيادة تجده يأخذ قليلاً في اليومين أو الثلاثة دقيقة واحدة، ثم يبدأ يزداد حتى يكون عند تساوي الليل والنهار يأخذ حوالي دقيقتين في اليوم تدريجيًّا، أرأيتم لو جاء دفعة واحدة، كنا مثلاً في أطول يوم في السنة وإذا بنا في اليوم الثاني إلى أقصر يوم في السنة، فيترتب على ذلك مفاسد عظيمة؛ لأن الناس سينقلبون من حر مزعج إلى برد مؤلم في خلال أربع وعشرين ساعة، وهذا لا شك أنه مضر بالأبدان والنبات والجو، ولكنه - عز وجل - يولجه على تنظيم موافق للحكمة تماماً، ولا أحد يستطيع أن يفعل هذا أبداً مهما بلغ من القوة، {وهو عليم بذات الصدور }، أي: صاحبة الصدور يعني القلوب، والدليل أنها القلوب قول الله تعالى: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى في الصدور } إذن هو عليم بما في القلب، وإذا كنت تصدق بذلك فهل يمكن أن تضمر في قلبك ما لا يرضاه الله، إن كنت مؤمناً؟ لا يمكن، فطهِّر قلبك من الرياء والنفاق، والغل على المسلمين والحقد والبغضاء، لأن قلبك معلوم عند الله - عز وجل -، اللهم طهر قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا، اللهم طهر قلوبنا. فطهر القلب من هذا، واملأه محبة لله تعالى وتعظيماً، كما يليق به ومحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيماً، كما يليق به، ومحبة للمؤمنين، ومحبة لشريعة الله تعالى، فلا تضمر في هذا القلب شيئاً يكرهه الله، فإن فعلت فالله عليم به لا يخفى عليه، فطهر قلبك حتى يكون نقياً سليماً، لأنه لا ينفع يوم القيامة إلا من أتى الله بقلب سليم كما قال - عز وجل -: {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} وتغيرات القلب تغيرات سريعة وعجيبة، ربما ينتقل من كفر إلى إيمان، أو من إيمان إلى كفر في لحظة، نسأل الله الثبات، وتغير القلب يكون على حسب ما يحيط بالإنسان، وأكثر ما يوجب تغير القلب إلى الفساد حب الدنيا، فحب الدنيا آفة، والعجب أننا متعلقون بها، ونحن نعلم أنها متاع الغرور، وأن الإنسان إذا سرّ يوماً أسيء يوماً آخر، كما قال الشاعر:
ويوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر
كل لذة في الدنيا فهي محوطة بمنغص، لذلك احرص على تطهير القلب من التعلق بالدنيا إلا فيما ينفعك في الآخرة، كأن تتعلق بالدنيا لتصبح غنياً تنفق مالك في سبيل الله وفيما يرضي الله، - عز وجل - فهذا شيء آخر، وطلب المال للأعمال الصالحة خير، لكن طلب المال لمزاحمة أهل الدنيا في دنياهم شر.
{آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} {آمنوا}، الخطاب للعباد كلهم، {بالله} رب العالمين {ورسوله} محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والأمر هنا للوجوب الذي هو أشد أنواع الوجوب تحتماً، والإيمان بالله أن تؤمن بأنه رب العالمين، وأن تؤمن بأنه الإله المعبود حقًّا الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وأن تؤمن بأن له الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأن تؤمن بأنه الفعال لما يريد، وأن تؤمن أنه لا معقب لحكمه وهو السميع العليم، وأن تؤمن أن مرجع الخلائق إليه في الأحكام الشرعية والأحكام الكونية، فمن يدبر الخلق إلا الله - عز وجل - والذي يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون هو الله - عز وجل - {ورسوله} محمد عليه الصلاة والسلام، أرسله الله تعالى إلى جميع الخلق والإنس والجن. وختم به النبوات، فلا نبي بعده، والدليل {ما كان محمد أبآ أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليماً }. يعني كان رسول الله خاتم النبيين فلا نبي بعده، فمن ادعى النبوة بعده فهو كافر، يجب أن يقص عنقه إلا أن يتوب ويرجع، {وأنفقوا}، الإنفاق البذل، {مما جعلكم مستخلفين فيه} يعني المال؛ لأن الله جعلنا مستخلفين في المال فهو الذي ملكنا إياه، فلا منة لنا على الله بما ننفق، بل المنة لله علينا بما أعطى، والمنة له علينا بما شرع لنا من الإنفاق، ولولا أن الله شرع لنا أن ننفق لكان الإنفاق ضياعاً وبدعة، ولكن شرع لنا أن ننفق، فلله تعالى المنة أولاً فيما ملكنا من المال، وله المنة ثانياً بما شرع لنا من إنفاقه، وله المنة ثالثاً بالإثابة عليه {فالذين آمنوا منكم} أي: آمنوا بالله ورسوله؛ لأنه قال: {آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا} أي مما جعلهم مستخلفين فيه، {لهم أجر كبير}، والآيات في هذا كثيرة{لهم أجر كبير } ،{ولهم أجر عظيم} {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}، فوصف الله الأجور على العمل بأنه كبير عظيم كثير، الكثير نأخذه من قوله: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} وبهذا نعرف منة الله علينا: يأمرنا بالعمل ونعمل به ويأجرنا عليه أجراً كثيراً، أجراً عظيماً، أجراً كبيراً، منة عظيمة كبيرة، فعلينا أن نشكر الله، وأن ننفق مما جعلنا مستخلفين فيه، فهل ننفق كل ما نملك أو بعض ما نملك؟ قال الله تعالى: {وأنفقوا مما} ومن هذه هل هي للتبعيض أو هي لبيان ما ينفق منه إذا كانت للتبعيض فالمعنى أنفقوا بعض ما رزقكم وليس كله.
إذا جعلناها للبيان، فالمعنى أنفقوا مما جعلكم حسب ما تقتضيه المصلحة: إما الكل وإما البعض، والأحسن أن تجعل {مما} للبيان، وإذا جعلناها للبيان صار الإنسان مخيراً ينفق كل ماله، أو بعض ماله، أكثره أو أقله، حسب ما تقتضيه المصلحة، ومعلوم أنه كلما كان المعنى أوسع كان الأخذ به كان أولى، والقرآن الكريم العظيم معانيه واسعة عظيمة، ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم مرة على الصدقة، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتسابقون إلى الخير، كل واحد يحب أن يكون هو السابق، فقال عمر - رضي الله عنه -: اليوم أسبق أبا بكر؛ لأن هذين الرجلين هما أخص الصحابة بالرسول عليه الصلاة والسلام، وأحب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا بكر أشد من حب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، مع أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ابن عمه وزوج ابنته، لكن أبا بكر - رضي الله عنه - يحبه أشد وأكثر، فقد سئل: من أحب الناس إليك؟ قال: «أبو بكر () » وقال: «لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر () » والمهم أن عمر كان هو وأبو بكر - رضي الله عنهما - كفرسي رهان، يحب أن يسبقه لا حسداً لأبي بكر - رضي الله عنه - ولكن حبًّا للفضل لنفسه، قال: اليوم أسبق أبا بكر، فجاء بنصف ماله لينفقه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمر، «ماذا تركت لأهلك»؟ قال: تركت لهم الشطر، يعني النصف، وجاء أبو بكر فقال: «ما تركت لأهلك»؟ قال: تركت لهم الله ورسوله، أي أتى بكل ماله، فقال عمر: - رضي الله عنه - والله لا أسابقك على شيء بعد هذا () ، عرف أنه يعجز أن يسبق أبا بكر، والشاهد من هذا الحديث أن أبا بكر - رضي الله عنه - تصدق بجميع ماله، فإذا رأى الإنسان المصلحة في أن يتصدق بجميع ماله، وأن عنده من قوة التوكل والاعتماد على الله واكتساب الرزق ما يمكنه أن يسترد شيئاً من المال لأهله ونفسه، فحينئذ نقول: تصدق بجميع مالك، وإذا كان الأمر بالعكس فكان رجلاً أخرق لا يعرف أن يكتسب، وليس هناك داع أن ينفق كثيراً، فهنا نقول: الأولى أن تنفق بعض المال، وفي هذه الآية دليل على أنه ينبغي للإنسان أن يحقق إيمانه ويثبته، وكلما رأى فيه تزعزعاً استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ومضى إلى سبيله، وأن ينفق من المال، والمال محبوب قال الله تعالى: {وتحبون المال حباً جماً } وقال - عز وجل -: {وإنه لحب الخير لشديد } ولا يمكن أن يبذل الإنسان شيئاً محبوباً إليه إلا لما هو أحب، فإذا بذل الإنسان المحبوب إليه ابتغاءً لرضوان الله، علمنا أن الرجل يحب رضوان الله أكثر من المال، وبذلك يتحقق الإيمان، أسأل الله تعالى أن يجعلنا من ذوي العلم الراسخ والإيمان الثابت، إنه على كل شيء قدير.
{وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين } هذا معطوف على الآية التي قبلها وهي {آمنوا بالله ورسوله} {وما لكم لا تؤمنون بالله} يعني أي شيء يمنعكم من الإيمان بالله، وقد تمت أسباب وجوب الإيمان به، وذلك بدعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال عز وجل: {والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم} يعني أخذ الله تعالى العهد أن تؤمنوا به وبرسوله، فصار هناك سببان للإيمان، الأول: دعوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إليه، والثاني: الميثاق الذي أخذه الله علينا، وذلك بما أعطانا - عز وجل - من الفطرة والعقل والفهم الذي ندرك به ما ينفعنا ويضرنا، هذا هو الصحيح في معنى الميثاق، وقيل: إنه الميثاق الذي أخذه الله تعالى على بني آدم حين أخرجهم من ظهره، إن صح الحديث الوارد في ذلك () المهم أن الله تعالى ينكر على من لم يؤمن فيقول: ما الذي حملك على أن لا تؤمن، وقد تمت أسباب وجوب الإيمان بدعوة الرسول صلى الله عليه وعلى
له وسلم، وبأخذ الميثاق {إن كنتم مؤمنين } يعني إن كنتم مؤمنين فالزموا الإيمان بالله ورسوله، {هو الذي ينزل على عبده ءايات بينات} لما ذكر أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو إلى الإيمان بين أنه نزل عليه صلى الله عليه وسلم {ءايات} أي: علامات دالة على صدقه، وأن ما جاء به هو الحق، {بينات} ظاهرات بما اشتملت عليه من القصص النافعة، والأخبار الصادقة، والأحكام العادلة، والفصاحة التامة، والبيان العجيب، حتى إن العرب وهم أئمة البلاغة وأمراؤها تحداهم الله - عز وجل - عدة مرات أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولم يستطيعوا، {ليخرجكم من الظلمات إلى النور} قوله: {ليخرجكم} يحتمل أن يكون المراد بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أي يكون سبباً في إخراجكم من الظلمات إلى النور، ويحتمل أن يعود إلى الله - عز وجل - أي ليخرجكم الله تعالى بهذه الآيات من الظلمات إلى النور، وكلا المعنيين حق، قال الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} وقال الله تعالى: {الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} فالنبي صلى الله عليه وسلم سبب في إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وأما المخرج حقيقة فهو الله - عز وجل -، والمراد بالظلمات: ظلمات الجهل، وظلمات الشرك، وظلمات العدوان، وظلمات العصيان، وكل ما خالف الحق فهو ظلمة، وكل ما وافقه فهو نور، {وإن الله بكم لرءوف رحيم }، هذه الجملة خبرية مؤكدة بإن، واللام {لرءوف رحيم } الرأفة أرق الرحمة، والرحمة أعم، فهو - عز وجل - رؤوف رحيم، أي ذو رحمة بالمؤمنين كما قال تعالى: {وكان بالمؤمنين رحيماً} ورحمة الله سبحانه وتعالى إما عامة وإما خاصة، فالعامة الشاملة لجميع الناس، والخاصة بالمؤمنين، كما قال - عز وجل -: {وكان بالمؤمنين رحيماً } فإذا قال قائل: أي رحمة من الله للكافر؟ فالجواب: أمده بأنعام وبنين، وعقل، وأمن، ورزق، بل الكفار قد عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا قال الله عز وجل: {ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دآبة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى} فإذا سألك سائل: هل لله رحمة على الكافر؟ لا تقل: نعم ولا لا، أما بالمعنى العام فنعم رحمة، ولولا رحمة الله به لهلك، وأما بالمعنى الخاص فلا، الرحمة الخاصة للمؤمنين فقط قال - عز وجل -: {وكان بالمؤمنين رحيماً } {وإن الله بكم لرءوف رحيم } ولما أمرنا أن ننفق مما جعلنا مستخلفين قال: {وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله} يعني أي شيء يمنعهم، والإنفاق في سبيل الله يشمل كل شيء أمر الله بالإنفاق فيه، ففي سبيل الله هنا عامة، وعليه يدخل في ذلك الإنفاق على النفس، والإنفاق على الزوجة، والإنفاق على الأهل، والإنفاق على الفقراء واليتامى، والإنفاق في الجهاد في سبيل الله، فكل ما أمر الله تعالى بالإنفاق فيه فهو داخل في هذه الآية حتى إنفاقك على نفسك صدقة، وإنفاقك على زوجك صدقة، ولكن لاحظ النية، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لسعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - «واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها» () ، فلزم هذا القيد، لابد أن تبتغي بها وجه الله إلا أجرت، أي: أثبت عليها، {ولله ميراث السماوات والأَرض} يعني كيف لا تنفق والذي سيرث السماوات والأرض هو الله، ومن جملة ذلك مالك الذي بخلت به سيرثه الله - عز وجل - وترجع الأمور كلها لله سبحانه وتعالى. قال أهل العلم: إن الشح في إنفاق المال سفه في العقل، لأن هذا المال إما أن يفنى في حياتك فتعدمه، وإما أن يبقى بعد موتك فإذا ورث مالك من بعدك فإما أن يرثه صالح فيكون أسعد به منك، وإما أن يرثه مفسد فتكون خلفت له ما يستعين به على إفساده، فإذا خلفت المال فإما أن تخلفه إلى من ينفقه في سبيل الله فيكون هو أسعد بمالك منك، وإما أن تخلفه لمفسد يستعين به على معصية الله فتكون أعنته على معصية الله، بما خلفت له من المال، إذن اللائق بك أن تنفقه في سبيل الله حتى يكون لك غنم وتسلم من غائلته لو ورثه من يفسد به، فتذكر يا أخي عندما تفكر في الإنفاق فيأتيك الشيطان فيأمرك بالبخل ويعدك الفقر، فكر أنك إذا خلفت هذا المال فلابد أن يورث، لن يدفن معك، لابد أن يورث ويكون الإرث دائراً بين الأمرين السابقين. {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل} دين الإسلام دين العدل في العمل والجزاء، وانتبه دين العدل في العمل والجزاء وليس كما يقول المحدَثون: «إنه دين المساواة»، هذا غلط عظيم، لكن يتوصل به أهل الآراء والأفكار الفاسدة إلى مقاصد ذميمة، حتى يقول: المرأة والرجل، والمؤمن والكافر سواء، ولا فرق، وسبحان الله إنك لن تجد في القرآن كلمة المساواة بين الناس، بل لابد من فرق، بل أكثر ما في القرآن نفي المساواة {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} وآيات كثيرة، فاحذر أن تتابع فتكون كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، بدل من أن تقول: (الدين الإسلامي دين مساواة) قل: (دين العدل الذي أمر الله به، يعطي كل ذي حق حقه)، أرأيت المرأة مع الرجل في الإرث، وفي الدية، وفي العقيقة، وفك الرهان يختلفون. وفي الدين: المرأة ناقصة إذا حاضت لم تصل ولم تصم، وفي العقل المرأة ناقصة: شهادة الرجل بشهادة امرأتين، وهلم جرا، والذين ينطقون بكلمة مساواة إذا قررنا هذا وأنه من القواعد الشرعية الإسلامية ألزمونا بالمساواة في هذه الأمور، وإلا لصرنا متناقضين، فنقول: دين الإسلام هو دين العدل يعطي كل إنسان ما يستحق، حتى جاء في الحديث: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود () » يعني إذا أخطا الإنسان الشريف الوجيه في غير الحدود فاحفظ عليه كرامته وأقله، هذا الذي تقيله إذا كان من الشرفاء، إقالتك إياه أعظم تربية من أن تجلده ألف جلدة، لأنه كما قيل: الكريم إذا أكرمته ملكته، لكن لو وجد إنسان فاسق ماجن فهذا اشدد عليه العقوبة وأعزره، ولهذا لما كثر شرب الخمر في عهد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضاعف العقوبة بدل أربعين جعلها ثمانين () ، كذلك الحديث الصحيح الذي رواه أهل السنن: «من شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه» () ، لأن لا فائدة في جلده، ثلاث مرات نعاقبه ولا فائدة إذن خير له ولغيره أن يقتل، وإذا قتلناه استراح من الإثم، كما قال الله عز وجل: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأَنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين } والخلاصة أن التعبير بأن دين الإسلام دين ااساواة غلط وليس بصحيح، بل هو دين العدل ولا شك، والعجب أن هؤلاء الذين يقولون هذا الكلام، يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى () » فيتناقضون، والحديث لم ينف مطلقاً، وإنما قال: «إلا بالتقوى» فهم يختلفون بالتقوى، ثم إن هذا الحديث لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه قال: «إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم () » ففضل، ولا شك أن جنس العرب أفضل من جنس غير العرب لا شك عندنا في هذا، والدليل على هذا أن الله جعل في العرب أكمل نبوة ورسالة، محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فالأجناس تختلف، وقال عليه الصلاة والسلام: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا () » فاحذر أن تتابع في العبارات التي ترد من المحدِثين المحدَثين حتى تتأملها وما فيها من الإيحاءات التي تدل على مفاسد ولو على المدى البعيد، أسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، إنه على كل شيء قدير.
تابع ..