{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} أي: لا يكونوا سواء، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبين قريش، وذلك في ذي القعدة من عام
ستة من الهجرة، وسمي فتحاً، لأنه صار فيه توسيع للمسلمين وتوسيع أيضاً للمشركين. واختلط الناس بعضهم ببعض، وأمن الناس بعضهم بعض حتى يسر الله - عز وجل - أن نقضت قريش العهد، فكان من بعد ذلك الفتح الأعظم، فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان قال الله - عز وجل -: {أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} وذلك لأن الأولين أنفقوا وقاتلوا وسبقوا إلى الإسلام وكان الإسلام في حاجة لهم ولإنفاقهم، فكانوا أفضل ممن أنفق من بعد وقاتل، والله سبحانه وتعالى يجزي بالعدل بين عباده، ولكن لما كان تفضيل السابقين قد يفهم منه أن لا فضل للاحقين قال: {وكلا وعد الله الحسنى} أي: كل من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وعدهم الله الحسنى، يعني الجنة، {والله بما تعملون خبير } أي: عليمببواطن أموركم كظواهركم لا يخفى عليه شيء، وإذا كان عالماً بها فسوف يجازي - جل وعلا - كل عامل بما عمل، قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره }.ثم قال - عز وجل -: حاثًّا ومرغباً في الإنفاق في سبيله، فقال: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له} أي: أين الذين يقرضون الله قرضاً حسناً، أي: ينفقون فيما أمرهم بالإنفاق فيه، وأشار الله في هذا إلى شيئين: إلى الإخلاص في قوله، {من ذا الذي يقرض الله} يعني لا يرى سوى الله - عز وجل - والمتابعة في قوله: {حسناً}؛ لأن العمل الحسن ما كان موافقاً للشريعة الإسلامية، والإخلاص والمتابعة هما شرطان في كل عمل: أن يكون مخلصاً لله، وأن يكون متابعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ووصف الله تعالى الإنفاق في سبيله بالقرض تشبيهاً بالقرض الذي يقرضه الإنسان غيره، لأنك إذا أقرضت غيرك فإنك واثق من أنه سيرده عليك، هكذا أيضاً العمل الصالح سيرد على الإنسان بلا شك،بل {فيضاعفه له} والمضاعفة هنا الزيادة، وقد بين الله تبارك وتعالى قدرها في سورة البقرة، فقال: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء} فأنت إذا أنفقت درهماً فجزاؤه سبعمائة درهم، ثواباً من عند الله - عز وجل - والله فضله أكثر من عدله وأوسع، ورحمته سبقت غضبه، فيضاعفه له إلى سبعمائة بل إلى أكثر كما جاء في الحديث إلى أضعاف كثيرة، {وله أجر كريم }، أي: حسن واسع، وذلك فيما يجده في الجنة، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم قال - عز وجل -: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات} أي: أذكر للأمة يوم ترى أيها الإنسان {المؤمنين والمؤمنات} يوم القيامة {يسعى نورهم بين أيديهم} أي: أمامهم {وبأيمانهم} يكون من الأمام ومن اليمين، أما من الأمام فلأجل أن يقتدي الإنسان به، وأما عن اليمين فتكريماً لليمين يكون بين أيديهم وبأيمانهم، وقوله: {يسعى نورهم} يفيد أن هذا النور على حسب الإيمان، لأن الحكم إذا علق بوصف كان قويًّا بقوة ذلك الوصف، وضعيفاً بضعفه، إذن نورهم على حسب إيمانهم الذكر والأنثى.
{بشراكم اليوم جنات} تقول الملائكة لهم {بشراكم} أي: ما تبشرون به {اليوم} يعني يوم القيامة {جنات تجرى من تحتها الأنهار} هذه الجنات فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها ما يشاءون، كما قال الله عز وجل: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } وجمعها لأنها جنات متعددة متنوعة، ودرجات مختلفة حسب قوة الإيمان والعمل وقوله {تجرى من تحتها الأنهار} أي: تسير، وقد بين الله تبارك وتعالى في سورة القتال أنها أربعة {أنهار من ماء غير ءاسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى} وهذه الأنهار لا تحتاج إلى حفر ساقية ولا إلى جدول، بل تسير على سطح الأرض، حيث شاء أهلها، قال ابن القيم - رحمه الله -:
أنهارها من غير أخدود جرت سبحان ممسكها عن الفيضان
فلا تذهب يميناً ولا شمالاً إلا حيث أراد أهلها، وقوله {من تحتها} إشارة إلى علو قصورها وأشجارها، يعني تكون هذه الأنهار من تحت هذه القصور العالية والأشجار الرفيعة {خالدين فيها} أي: ماكثين فيها، وقد جاءت آيات متعددة بأن هذا المكث دائم ليس فيه زوال ولا انقطاع ولا تغير، {ذلك هو الفوز العظيم} المشار إليه ما وعدهم الله به الجنات التي تجري من تحتها الأنهار هو الفوز العظيم، و{هو} يسميها العلماء ضمير فصل، وهو مفيد للتوكيد والاختصاص، أي هذا الذي ذكر هو الفوز العظيم، لأنه لا فوز مثله، كما أنه لا فوز أعظم منه، نسأل الله أن يجعلنا من أهله إنه على كل شيء قدير.
{يوم يقول المنافقون والمنافقت للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } {يوم يقول} أي: اذكر يوم يقول، فكلمة {يوم يقول} ظرف زمان، ولابد للظرف الزماني والمكاني، والجار والمجرور من شيء تتعلق به، والعلماء يقدرون المحذوف في كل مكان بما يناسب، وهنا المناسب أن يكون التقدير: اذكر أيها الإنسان يوم يقول المنافقون، هذا اليوم هو يوم القيامة، والمنافقون هم الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} ولم يظهر النفاق إلا بعد أن قويت شوكة المسلمين بعد غزوة بدر، وكانت غزوة بدر في رمضان في السنة الثانية من الهجرة، انتصر فيها المسلمون انتصاراً ساحقاً على الكفار، فلما بزغ فجر الإسلام وقويت شوكته ظهر النفاق. والنفاق هو أن الإنسان يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فظهر ذلك في المسلمين، فكانوا يأتون إلى الناس ويحضرون الجماعة لكنها ثقيلة عليهم، «وأثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر () »، لأنه ليس هناك أضواء يشاهدون فيها، وهم إنما يصلون يراءون الناس، وفي يوم القيامة يظهر نور للمؤمنين والمنافقين، ثم ينطفىء نور المنافقين، وأنت تعلم أيها الإنسان أن انطفاء النور بعد ظهوره يكون أشد ظلمة مما لو لم يكن هناك نور، ولهذا لو أطفأت النور القوي ثم فتحت عينيك لم تر شيئاً إلا بعد برهة من الزمن، فيكون انطفاء النور بعد وجوده أشد عليهم مما لو لم يكن هناك نور، ثم تكون الحسرة أشد، فيقول المنافقون للذين آمنوا: {انظرونا نقتبس من نوركم}، أي: نأخذ شيئاً قليلاً بقدر الحاجة، {قيل ارجعوا وراءكم}، والقيل هذا إما من المؤمنين، أو من الملائكة، فالله أعلم لا ندري.{ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً} وهل هو حقيقة يريدون أن يذهبوا إلى مكان النور، الذي انطفأ فيه النور لعله يتجدد النور، أو أن هذا من الاستهزاء بهم والسخرية؟ الآية محتملة هذا وهذا {فضرب بينهم} أي بين المنافقين والمؤمنين {بسور له باب} هذا سور عظيم، له باب يمنع من القفز، له باب يدخل منه المؤمنون ويمنع منه المنافقون، {باطنه فيه الرحمة} أي: باطن هذا السور فيه الرحمة للمؤمنين، {وظاهره من قبله العذاب } للمنافقين، وأنت لا تستطيع أن تتصور هذه الحال، لأن الحال أعظم من أن نتصورها، حال عظيمة {ينادونهم}، المنادى المنافقون، والمنادى المؤمنون، {ألم نكن معكم} يعني في الدنيا كنا نصلي معكم ونتصدق ونذكر الله، {قالوا بلى} يعني أنتم معنا، ولكن في الظاهر دون الباطن، ولهذا قالوا: {ولكنكم فتنتم أنفسكم} يعني أضللتموها {وتربصتم}، انتظرتم بنا الدوائر {وارتبتم} شككتم في الأمر، فليس عندكم إيمان { وغرتكم الأماني} أي: ظننتم أنكم محسنون لأنكم تقولون إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، نوفق بين المؤمنين والكافرين، وبين الإيمان والكفر، إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا فهم مع المؤمنين، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، فهم مع الكفار، ظنوا أنهم بهذه المداهنة كسبوا المعركة، فغرتهم الأماني {حتى جاء أمر الله}، وذلك بموتهم {وغركم بالله الغرور }. الغرور هو الشيطان ودليل هذا قول الله تبارك وتعالى عنه حين وسوس إلى أبوينا قال الله عنه {فدلاهما بغرور}، فالغرور هو الشيطان، {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} الأسير في الدنيا يمكن أن يفدي نفسه ويبذل المال فيسلم، لكن في الآخرة ليس فيه فدية، {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} أيها المنافقون، {ولا من الذين كفروا} الذين أعلنوا الكفر وصاروا أشجع من هؤلاء المنافقين فلا فدية لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، {مأواكم النار} أي: مثواكم ومآلكم النار {هي مولاكم} الذي تتولونه، والتي تتولاكم، فهم يتولون النار بعمل أهلها، والنار تتولاهم لأنهم مستحقون لها {وبئس المصير } أي: المرجع وهذا تقبيح لها، أعاذنا الله منها، نسأل الله أن يجعلنا ممن زحزح عن النار وأدخل الجنة، ومن الفائزين المتقين المفلحين.
{ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} أي: ألم يحق لهؤلاء المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي: أن تذل وتنقاد غاية الانقياد لذكر الله تعالى في القلوب واللسان والجوارح {وما نزل من الحق}، يعني القرآن الكريم، وهو من ذكر الله، وذكره بخصوصه لأهميته، {ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأَمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون }، الذين أوتوا الكتاب من قبل هم اليهود والنصارى {فطال عليهم الأَمد} يعني طال بهم الزمن ونسوا حظهم مما ذكروا به فقست قلوبهم - والعياذ بالله - وكثير منهم فاسقون وبعضهم مستقيم، ففي هذه الآية الكريمة يبين الله - تبارك وتعالى - انه قد حق للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ولكتاب الله، وأن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم لبعدهم عن زمن الرسالات، وفي هذا إشارة إلى أن أول الأمة خير من آخرها، وأخشع قلوباً؛ وذلك لقربهم من عهد الرسالة، وقد صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» () وفي هذا التنديد التام باليهود والنصارى لأنها قست قلوبهم لما طال عليهم الأمد، وفيه العدالة التامة في حكم الله - عز وجل - حيث قال: {وكثير منهم فاسقون } ولم يعمم، وهذا هو الواجب على من تحدث عن قوم أن يبين الواقع؛ لأن بعض الناس إذا رأى من قوم زيغاً في بعضهم عمم الحكم على الجميع، والواجب العدل إن كان الأكثر هم الفاسقون، فقل: أكثرهم، وإن كان كثير منهم فاسقين فعبر بالكثير على حسب ما تقتضيه الحال، لأن الواجب أن يقوم الإنسان بالعدل ولو على نفسه أو والديه والأقربين.
{اعلموا أن الله يحي الأَرض بعد موتها قد بينا لكم الأيات لعلكم تعقلون } اعلموا: فعل أمر، فأمر بالعلم بهذه القضية الهامة، وهي أن الله يحيي الأرض بعد موتها، يعني أن الأرض تجدها يابسة ليس بها نبات فينزل الله عليها المطر فتنبت وتحيا وتنمو، إذا علمنا هذا ونحن عالمون به ونشاهده، فإننا نستدل به على قدرة الله - تبارك وتعالى - على إحياء الموتى، فإن الناس أحياء الآن، ثم يموتون، ثم يبعثون يوم القيامة، فالقادر على إحياء الأرض بعد موتها قادر على إحياء الأجسام بعد موتها من أجل الحساب والجزاء؛ لأنه ليس من الحكمة أن يخلق الله - تبارك وتعالى - خلقاً يأمرهم وينهاهم ويبيح دماء من لم يستجب وأموالهم ثم تكون النتيجة أن يموت الإنسان فقط، بل لابد من حياة، هي الحياة الحقيقية، كما قال - عز وجل -: {وإن الدار الأَخرة لهي الحيوان} ومعنى الحيوان، أي: الحياة الحقيقية التامة الكاملة التي ليس بعدها موت، وليس المراد بالحيوان الحيوانات الدواب، فالقادر على أن يجعل العيدان اليابسة خضراء نامية، قادر على أن يحيي الموتى وبكلمة واحدة، قال الله تعالى: {فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة} وقال عز وجل: {إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون } وقال - عز وجل -: . {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} {قد بينا لكم الأيات لعلكم تعقلون } أي: أظهرناها لكم، والآيات هي العلامات الدالة على كمال قدرة الله - جل وعلا - وعلى كمال رحمته وسلطانه، وأضرب لذلك مثلاً: إذا أنزل الله المطر ونبتت الأرض، وشبعت البهائم، وطابت الأجواء فهذا من آثار رحمته، فنستدل بهذا على رحمة الله، ونستدل بما خلق الله في الكون من الشمس والقمر والنجوم، وما خلق الله تعالى في الأرض من الجبال والأنهار وغيرها على كمال حكمة الله - عز وجل - لأنك إذا تدبرتها وجدت فيها من الحكمة ما يبهر العقل، {لعلكم تعقلون } لعل هنا للتعليل وليست للرجاء، مع أنها في اللغة العربية تأتي للرجاء كثيراً، لكنها هنا للتعليل؛ لأن الرجاء لا يمكن في حق الله، إذ إن الرجاء طلب شيء فيه نوع من العسر، لكن الله - عز وجل - لا يتصور في حقه الرجاء، لكن تأتي لعل للتعليل، أي لأجل أن تعقلوا، والمراد بالعقل هنا: عقل الرشد، أي: تعقلوا عقلاً ترشدون به، ويكون دليلاً لكم على ما فيه الخير {إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعف لهم ولهم أجر كريم }، {إن المصدقين} أصلها: إن المتصدقين، لكن قلبت التاء صاداً لعلة تصريفية معروفة عند أهل النحو، {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} أي: أنفقوا في سبيل الله إنفاقاً حسناً، والإنفاق الحسن ما جمع شرطين، الأول: الإخلاص لله - عز وجل -. والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فالمرائي الذي ينفق رياء لم يقرض الله قرضاً حسناً، ومثال ذلك: إنسان تصدق على فقير من أجل أن يراه الناس، فيقولون: إن فلاناً كثير الصدقة، فهذا مرائي وصدقته لا تنفعه، ولا تقبل منه؛ لأن كل عمل يراد به غير الله فهو غير مقبول، قال الله - تبارك وتعالى - في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» () وإنسان آخر يتعبد لله تعالى بعبادات غير مشروعة، صاحب بدعة لكنه مخلص، لو سألته لِمَ فعلت هذا؟ قال: أريد ثواب الله، وأريد التقرب إلى الله، فلا تنفعه هذه العبادة، لعدم المتابعة، فقوله - عز وجل -: {وأقرضوا الله قرضاً حسناً} أي: مخلصين فيه لله، متبعين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فإن قال قائل: لماذا عبر الله تعالى بالقرض وهو الغني سبحانه وتعالى؟
فالجواب: يقول هذا - جل وعلا - ليبين أن أجرهم مضمون، كما أن القرض مضمون، وسيرد عليه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، لكن كيف تكون الواحدة بعشرة وهي ربا في القرض، كيف يكون هذا؟ الجواب: أولاً: لا ربا بين العبد وبين ربه. ثانياً: القرض إذا أعطاك المقترض شيئاً بدون شرط فهو حلال؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم استقرض بكراً، والبكر يعني بعيراً صغيراً، وردَّ خيراً منه وقال: «خيركم، أحسنكم قضاء» () ، ولهذا عبارة الفقهاء: (كل شرط جر نفعاً للمقرض فهو ربا)، ولم يقولوا كل زيادة، {يضاعف لهم} هذا خبر (إن) يعني إن المتصدقين والمتصدقات وأقرضوا قرضاً حسناً يضاعف لهم، أي: يعطون أجرهم مضاعفاً، عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، {ولهم أجر كريم } أي: ثواب كريم، والكريم هو الحسن الطيب، وذلك أن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأصل الكرم الحسن، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - لما بعثه لليمن: «إياك وكرائم أموالهم» يعني إذا أخذت الزكاة اجتنب كرائم الأموال، يعني أحاسنه، «واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب» () ثم قال - عز وجل -: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} الإيمان بالله يتضمن أربعة أشياء:
الأول: الإيمان بوجوده.
الثاني: الإيمان بربوبيته.
الثالث: الإيمان بألوهيته.
والرابع: الإيمان بأسمائه وصفاته.
والإيمان بوجود الله لا ينكره إلا مكابر في الواقع، لأن كل إنسان يعرف أن هذا الكون المستقر المنظم لابد له من موجد ومنظم، والموجد والمنظِّم هو الله - عز وجل - لأن كل إنسان يعلم أنه لا يستطيع أحد من البشر أن
يتصرف بهذا الكون، مَن الذي يأتي بالليل مع وجود النهار؟ ومن الذي يأتي بالنهار مع وجود الليل؟ لا أحد يقدر، إذن كل إنسان عاقل فهو مؤمن بقلبه وإن أنكر بلسانه، مؤمن بوجود الله - عز وجل -، وجه ذلك أن هذه الخليقة العظيمة لابد لها من مدبر، لو قال قائل: إنها جاءت هكذا صدفة، فنقول: إن الشيء إذا جاء صدفة لا يكون منظماً، ولو قال قائل: هي أوجدت نفسها، نقول: هذا أيضاً محال عقلاً، كيف توجد نفسها وهي عدم، هذا لا يمكن، إذن لابد لها من موجد، ولهذا قال الله تعالى في سورة الطور: {أفرءيتم ما تمنون أءنتم تخلقونه أم نحن الخالقون} والجواب: بل أنت يا ربنا، نحن لا نقدر أن نخلق جنيناً في بطن أمه أبداً، قال الله - عز وجل -: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له} استمعوا يا أيها الناس، خطاب للناس كلهم: الكافر والمؤمن، ولهذا إذا قرأت الآية يجب أن تستمع {إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً} هذا الذباب المهين لا يمكن أن يخلقوه {ولو اجتمعوا له}، كل المعبودات لا يمكن أن تخلق ذباباً وهو من أصغر الحيوان وأذلها، زد على هذا، {وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه} يعني لو أن الذباب أخذ من هذه الأصنام شيئاً ما استطاعت أن تستنقذه منه، قال أهل العلم: المعنى لو وقع الذباب على أحد هذه الأصنام وامتص من الطيب الذي فيها، لأنهم يطيبون أصنامهم، ما استطاعت الأصنام أن تستنقذه، {ضعف الطالب والمطلوب }، فلا يمكن لأحد أن ينكر من صميم قلبه وجود الله - عز وجل - أبداً، لأنه باتفاق العقلاء أن كل حادث لابد له من مُحدث، ولا أحد يحدث هذا الكون إلا الله - عز وجل -.
الثاني: الإيمان بربوبيته، أي أنه وحده الخالق المالك المدبر لجميع الأمور، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للكون إلا الله، ولا مالك للكون إلا الله - عز وجل - حتى ملك الإنسان ما في يده ليس ملكاً حقيقيًّا، والدليل أنه لا يمكن أن يتصرف فيما في يده كما يشاء، لو أردت أن أحرقه منعت
شرعاً، وحرام عليَّ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن إضاعة المال () ، إذن ملك الإنسان ما بيده ليس ملكاً حقيقياً، بل إنه يختص به عن غيره فقط.
الثالث: الألوهية: هي أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله - عز وجل - وعبادة الأصنام غير حق، كما قال - عز وجل -: {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل} إذن الألوهية أن تؤمن بأنه لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله - عز وجل - وما عبد من دونه فهو باطل، وعليه فلا تصرف العبادة إلا لله.
الرابع: الإيمان بالأسماء والصفات: قال الله - عز وجل -: {ولله الأسماء الحسنى} وصفاته كذلك عليا ليس فيها صفة نقص، قال الله تبارك وتعالى: {للذين لا يؤمنون بالأَخرة مثل السوء ولله المثل الأَعلى} أي الوصف الأعلى، وأسماء الله تعالى كثيرة لا يمكن حصرها مهما أردت، والدليل على ذلك حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - «ما من إنسان يصيبه هم أو غم أو حزن ثم يقول: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل فيَّ قضاؤك، أسألك اللهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» () . فجعل الله الأسماء ثلاثة أقسام، ما أنزله في كتابه، مثال الاسم الذي جاء في القرآن (الرحمن) أو علمته أحداً من خلقك مثل (الرب، الشافي)، جاء في السنة، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب» () . وقال عليه الصلاة والسلام: «أما الركوع فعظِّموا فيه الرب» () فهذا مما علمه أحداً من خلقه. «أو استأثرت به في علم الغيب عندك» هذا القسم الثالث ما استأثر الله به في علم الغيب، واستأثر بمعنى انفرد، وما انفرد الله بعلمه فلم ينزله في الكتاب ولم يعلمه أحداً من الخلق لا يمكن الإحاطة به إذن أسماء الله لا يمكن الإحاطة بها ولا هي محصورة بعدد، لأننا لا نعلمها، وأما قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة» () فالمعنى أن من الأسماء تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة هذا المعنى، ومعنى (أحصاها) أي: عرفها لفظاً، وعرفها معنى، وتعبد لله بمقتضاها، وليس المراد أن تحفظها فقط، بل لابد من حفظ اللفظ وفهم المعنى، والتعبد لله بها بمقتضاها، فمثلاً: إذا علمت أن الله - سبحانه وتعالى - غفور فتعرض للمغفرة، لا تقل: الله غفور، وتفعل الذنب متى شئت، بل تعرض للمغفرة واستغفر الله تجد الله غفوراً رحيماً، وإذا علمت أن الله عزيز فتتعبد الله بمقتضى هذا وتخاف منه وتحذر، وهلم جرا.
أما الإيمان بالرسل فإنه يتضمن تصديقهم كلهم من أولهم إلى آخرهم بما أخبروا به، إذا صح عنهم، وأما العمل بشرائعهم فإننا لا يلزمنا العمل إلا بشريعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذلك لأن الشرائع السابقة كلها نسخت بهذه الشريعة، لقول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} وقوله: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} وقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار» () {أولئك }، أي: الذين آمنوا بالله ورسله {هم الصديقون} أي: البالغون في الصدق مبلغاً كبيراً، لأن الصديق صيغة مبالغة، والصدق يكون بالقصد وبالقول وبالفعل، فأما الصدق بالقصد فأن يقصد الإنسان بعبادته وجه الله تبارك وتعالى لا يقصد غيره، وإذا قصد بعبادته شيئاً غير الله فقد أشرك ولا يقبل عمله، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث القدسي عن الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» () . الثاني: الصدق في القول بأن يكون الإنسان صادقاً فيما يخبر به، وقد أثنى الله تعالى على الصادقين، وأمرنا أن نكون معهم، فقال - جل وعلا -: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين } وأثنى على المهاجرين الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون، وأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصدق وحث عليه، ورغَّب فيه، فقال: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولايزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدِّيقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولايزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً» () . أما الصدق بالفعل فمتابعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لأن من كان صادقاً فيما يدعي من محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فليتبع الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لقوله تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } وقد سمى بعض السلف هذه الآية آية المحنة، يعني الامتحان، فمن ادعى حب الله ورسوله قلنا له: عليك باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن اتبعه فهو صادق، وإن خالفه فليس بصادق، {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم} الشهداء جمع شهيد، والمراد بهم من قُتلوا في سبيل الله، والقتال في سبيل الله: أن يقاتل الإنسان عدو الله لتكون كلمة الله هي العليا، قال ذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه: أي ذلك في سبيل الله؟ قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» () .
فالشجاع يحب القتال، كالصياد يحب أن يصيد، ويخرج ويتجشم المصائب ليصيد الصيد، وإذا صادها صارت عنده أرخص من كل شيء، فهذا يقاتل شجاعة، لأنه شجاع يحب أن يقاتل، ويقاتل حمية يعني عصبية لقومه، ويقاتل ليُرى مكانه، أي: رياء كما جاء في اللفظ الآخر،
«ويقاتل رياء» قال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» ومن قاتل ليسترد أرضه المغصوبة فهو من باب الحمية إلا إذا قال: أريد أن أستردها لأقيم عليها شعائر الإسلام، فهذا في سبيل الله، أما من قاتل لأن هذه أرضه ويريد أن ترد إليه، فهذا حمية ليس له أجر الشهداء إذا قتل، هؤلاء الشهداء {لهم أجرهم عند ربهم} أي: ثوابهم العظيم كما قال تعالى: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بمآ ءاتهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين} ولما ذكر - عز وجل - أهل الإيمان وثوابهم ذكر أصحاب الشمال بعد ذلك قال: {والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} لأن القرآن مثاني، تثنى فيه الأمور والمعاني، ولهذا تجد القرآن الكريم في الغالب إذا ذكر الله الجنة ذكر النار، وإذا ذكر أولياء الله ذكر أعداء الله، والحكمة من ذلك أن لا يمل الإنسان، لأنه كلما تنقل المعنى إلى معنى آخر نشط الإنسان، وحكمة أخرى أن يكون الإنسان سائراً إلى الله، أي متعبداً إلى الله بين الخوف والرجاء؛ لأنه إذا مرت به صفات المؤمنين قوي جانب الرجاء، وإذا ذكرت أحوال الكافرين غلب جانب الخوف.
{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} عطف التكذيب على الكفر وهو نوع منه؛ لأنه أشد، فالذي يكفر ولم يكذب أهون من الذي يكفر ويكذب، فعطف كذبوا بآياتنا على كفروا من باب عطف الخاص على العام، كعطف الروح على الملائكة وهو منهم، قال الله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} والروح جبريل وهو من الملائكة، {أولئك أصحاب الجحيم }. الجحيم اسم من أسماء النار، وأصحابها يعني الملازمين لها، ولهذا إذا مرت آية فيها (أصحاب) فالمعنى أنهم ملازمون لها مخلدون فيها، نسأل الله العافية، وفي هذه الآيات الترغيب بالأوصاف التي توصل إلى الجنات، لأن الله تعالى لم يذكر لنا هذه الأمور لنتطلع عليها فقط، ولكن لنسعى لها، وفيها التحذير من الكفر والتكذيب؛ لئلا يقع الإنسان في هذا العقاب الأليم.
لما ذكر الله أحوال المؤمنين وأحوال الكافرين وهم في الدنيا، كل يعمل على شاكلته، بين حقيقة الدنيا ما هي، وأمرنا أن نعلم من أجل أن يجتهد الإنسان في التأمل والتفكر، فالأمر بالعلم بشيء واقع يعني أن المطلوب أن تتأمل كثيراً حتى يتبين لك الأمر، {اعلموا أنما الحياة الدنيا} وهي حياتنا هذه {لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال}، خمسة أشياء: اللعب بالجوارح، بأن يعمل الإنسان أعمالاً تصده عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما اللهو بالقلوب فهو الغفلة، وهذا أشد وأعظم، وغفلة القلب - اعاذنا الله منها وأحيا قلوبنا - الغفلة عظيمة تفقدك جميع لذات الطاعة، وتحرم من جميع آثارها لقول الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} لم يقل: لا تطع من أسكتنا لسانه، بل قال: {من أغفلنا قلبه}، وما أكثر ذكرنا باللسان مع غفلة الجنان، وهذا لا شك أنه ينقص الثواب، وينقص الآثار المترتبة على الذكر من صلاح القلب، والاتجاه إلى الله، والإنابة إليه وغير ذلك: {وزينة} أي: زينة بالملابس، وزينة بالمراكب، وزينة بالمساكن، وزينة في كل شيء، ولذلك تجد الإنسان ولو كان فقيراً يحب أن يزين بيته، وكذلك سيارته عند الزواج إذا أراد الزواج يركب سيارة يجعلون عليها عقوداً من الأزهار وغيرها من الزينة {وتفاخر بينكم} أي: كل واحد يفخر على الثاني، إما بالقبيلة، أو بالعلم، يكون هذاعنده علم بالطب، وهذا لا يعرف، وهذا علمه بالهندسة وهذا لا يعرف، فيفخر عليه، وأقبح من ذلك التفاخر بالعلم الشرعي، لأن العلم الشرعي يجب على الإنسان إذا اكتسبه ومنَّ الله عليه به أن يزداد تواضعاً، وأن يعرف نفسه وقدر نفسه، ومن ذلك ما يحصل بين الشعراء في بعض الأحيان من التطاول على الآخرين ومن التفاخر كما يوجد في بعض الأفراح وبعض المناسبات
مما نسمع. {وتكاثر في الأموال والأولاد} أي يحب أن يكون أكثر أموالاً وأكثر أولاداً. وهذا كقوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} هذه حقيقة الدنيا، ومع هذا اللهو واللعب والتفاخر والزينة لا تبقى، فلابد أن تزول، وإذا طال الزمان عاد الإنسان إلى الهرم، وفي هذا يقول الشاعر:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادكار الموت والهرم
كل إنسان إذا فكر في عيشه وأنه في نعيم يقول: ما بعد ذلك؟! ما الذي بعده، إما موت أو هرم، إما أن تموت وتنتهي من الدنيا، وإما أن تهرم، وتكون عالة على ابنك وبنتك حتى أهلك يملونك، ولهذا أشار الله - عز وجل - إلى هذه الحالة فقال: {إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف} لأنهما إذا بلغاالكبر اختل تفكيرهما وصارا يتعبان، فأنت إما أن تموت وإلا تصل إلى حال الهرم، هذا إن بقيت لك الدنيا، وإلا فقد تسلب إياها قبل أن تصل إلى الهرم وقبل أن تموت، فنأخذ من هذا الحذر من فتنة الدنيا، وكم من إنسان أطغته الحياة الدنيا فهلك، وفي الحديث القدسي: «إن من عبادي من إذا أغنيته أفسده الغنى» بل قد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تفتح الدنيا فتنافسوا فيها كما تنافس فيها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم» () وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فأكثر الفسقة، وأكثر الكفرة من الملأ والأشراف، واقرأوا القرآن، مَن يكذب الرسل؟ هم الملأ والأشراف، واعتبروا بالواقع الآن، أكثر من يفسد الدنيا هم الأثرياء والأغنياء، الذين فتحت عليهم الدنيا، فليحذرها العاقل اللبيب، وليقتصر منها على ما ينفعه في الآخرة.
ثم ضرب الله لها مثلاً؛ لأن الأمثال تقرب المعاني، إذ إن المثل يعني قياس المعنى على المحسوس {كمثل غيث} أي: مطر تنبت به الأرض وتزول به الشدة، {كمثل غيث أعجب الكفار نباته} أي النبات الناشىء عنه، وأعجبهم: أي استحسنوه، والكفار هم الكافرون بالله - عز وجل - لأن الكافر تعجبه الدنيا ويفرح بها ويسر بها، وقلبه متعلق بها ليس له هم إلا ما يراه من زينتها ولهوها، فهو قد أعجب الكفار بالله، وخص الكفار لأن الكفار هم الذين يستحسنون الدنيا ويعجبون بها وتتعلق قلوبهم بها، أما المؤمنون فهم على العكس لا يهمهم إلا ما فيه مصلحة الآخرة، وقيل: إن المراد بالكفار هنا الزراع، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لأن إطلاق الكفار على الزراع نادر جداً، هذا إن صح، والذين يقولون: إن المراد بهم الزراع يقولون: لأن الزارع يكفر الحب، أي: يستره في الأرض، ولكن ما قررناه أولاً هو الصواب: أن المراد بالكفار، هم الكفار بالله، يعجب الكفار نباته ثم بعدما يظهر ويعجب الكفار ويستحسنونه ويتعجبون منه {يهيج} أي: ييبس ويجف، {فتراه مصفراً} بعد أن كان أخضر نامياً يكون مصفرًّا دائماً، {ثم يكون حطاماً} يعني: يتحطم ويتكسر؛ لأنه يبس، فماذا كانت النتيجة لهذا الزرع؟ التلف، والزوال، هذه حال الدنيا، تزهو للإنسان بنعيمها وقصورها ومراكبها وأموالها وأولادها وغير ذلك، وإذا بها تتحطم، كم من غني كان مسروراً في أهله، منعماً في بيته وفي مركوبه وفي ثيابه، وفي كل أحواله، وإذا به يعود فقيراً، فتتحطم دنياه، فإن لم تكن مات وتحطمت دنياه بفراق هذه الدنيا، فلابد من أحد أمرين: فإما أن تفارقك الدنيا، وإما أن تفارقها، هذه حال الدنيا، وهذا أمر لا يشك فيه في الواقع، لكن النفوس معها غفلة يسهو بها الإنسان عن مثل هذا الأمر الواقع، فيظن أن كل شيء على ما يرام، ويستبعد زوال الدنيا، أو زواله هو عن الدنيا، أما الآخرة فاستمع إليها، قال: {وفي الأَخرة عذاب شديد} للكافرين، {ومغفرة من الله ورضوان} للمؤمنين، فأيما أحق أن يؤثر الإنسان؟ الدنيا التي مآلها الفناء والزوال، أو الآخرة؟! يؤثر الآخرة هذا العقل، لأنك إن آثرت الدنيا ففي الآخرة عذاب شديد، وإن آثرت الآخرة ففيها مغفرة من الله ورضوان، {ومغفرة} للذنوب {ورضوان} بالحسنات، {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } هذه الجملة فيها حصر طريقة النفي والإثبات، وهو أعلى طرق الحصر، {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور }، يغتر بها الإنسان، فيلهو ويلعب ويفرح ويبطر ثم تزول، كل هذه الجمل وهذه الأوصاف يريد الله عز وجل - وهو أعلم - أن يزهد الإنسان في الدنيا ويرغبه في الآخرة، ومن زهد بالدنيا ورغب في الآخرة لم يفته شيء من نعيم الدنيا حتى وإن افتقر، فإنه لا يفوته نعيم الدنيا، ودليل هذا من القرآن والسنة، قال الله - عز وجل -: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبةً} لم يقل لنكثرن ماله وأولاده وقصوره {فلنحيينه حياة طيبةً} مطمئنة مستريح البال فيها، {ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }، وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك في قوله: «عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء فصبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له» () .
ثم قال - عز وجل -: {سابقوا إلى مغفرة من ربكم} أمر بالمسابقة، وقد جاء الأمر في آية أخرى بالمسارعة فيجمع الإنسان بين المسابقة وهي شدة العدو في حال السير، وبين المسارعة يعني المبادرة إلى فعل الخير {إلى مغفرة من ربكم} وذلك بفعل أسباب المغفرة، ومن أسباب المغفرة أن تسأل الله المغفرة، تقول: اللهم اغفر لي، أو تقول: أستغفر الله وأتوب إليه، ومن أسباب المغفرة فعل ما تكون به المغفرة كقول النبي صلى الله عليه وسلم : «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله ما تقدم من ذنبه» () وكقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث بهما نفسه، غفر الله بهما ما تقدم من ذنبه () ، وكقوله صلى الله عليه وسلم : «من قال سبحان الله وبحمده، مائة مرة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»
() والأمثلة على هذا كثيرة، {وجنة} هي دار النعيم التي أعدها الله - عز وجل - للمتقين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها فاكهة ونخل ورمان، وعسل ولبن وغير ذلك، لكن لا تظن أن ما فيها يشابه ما في الدنيا؛ لأن الله يقول: {فلا تعلم نفس مآ أخفي لهم من قرة أعين} وليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء فقط، اسم رمان لكن يختلف عن رمان الدنيا، فاكهة تختلف عن فاكهة الدنيا، فرش يختلف عن فرش الدنيا، وهلم جرا، وفي الحديث القدسي: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» () {عرضها كعرض السماء والأَرض}، وفي سورة آل عمران: {عرضها السماوات والأَرض} ولا منافاة لأن الأول: عرضها كعرض السماء تشبيه. والثاني: عرضها السماوات والأرض أيضاً تشبيه، لكن يسميه أهل البلاغة تشبيه بليغ {كعرض السماء والأَرض}، ومَن يستطيع أن يقدر عرض السماء والأرض؟ لا أحد يستطيع، السماوات بسعتها، السماء الدنيا واسعة جدًّا، كم بينها وبين الأرض من مسافة وهي محيطة بها، والسماء الثانية فوقها وهي أوسع منها، والثالثة أوسع وهلم جرا، إلى أن تصل إلى الكرسي. والكرسي يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ما السماوات السبع والأرضين السبع في الكرسي إلا كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض» () حلقة المغفر صغيرة، ألقها في فلاة في الأرض ماذا تكون بالنسبة للفلاة؟ لا شيء، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة» () فلن نستطيع أن ندرك عرض السماوات والأرض، والجنة عرضها كعرض السماء والأرض، ولذلك كان أقل أهل الجنة منزلة من ينظر إلى ملكه مسافة ألفي سنة () ، وإنما ذكر الله تعالى أن عرضها عرض السماوات والأرض من أجل أن نحرص على ملء هذه الأرض أرض الجنة، وفي الحديث: «أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اقرىء أمتك مني السلام،
وأخبرهم أن الجنة قيعان، وإن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر» () فاحرص يا أخي على أن تملأ ما تستحقه من هذه الجنة بذكر الله، وتلاوة كتابه، وغير ذلك مما يقرب إلى الله {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} أعدها الله - عز وجل - كما قال - عز وجل - {أعد الله لهم جنات تجري من تحتها الأنهار}، ومعنى الإعداد التهيئة للشيء، {للذين آمنوا بالله ورسله} آمنوا بالله، وبكل ما أوجب الله الإيمان به، من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وقوله {ورسله} يشمل جميع الرسل الذين أولهم نوح وآخرهم محمد عليهم الصلاة والسلام، لكن إيماننا بالرسل يختلف عن إيماننا بمحمد عليه الصلاة والسلام، فإيماننا بالرسل بأن نؤمن بأنهم صادقون مبلغون عن الله، ونؤمن بكل ما صح من أخبارهم، أما اتباعهم فلا اتباع إلا للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهم يشتركون مع الرسول بأن نؤمن بأنهم صادقون، وأن كل ما أخبروا به صدق، وأن كل ما جاءوا به فهو عدل ومناسب لأحوال أممهم في وقتهم، أما الاتباع فلا نتبع إلا واحداً منهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقوله: {آمنوا بالله ورسله} يدل على أن أهل الكتاب اليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة، لأنهم لم يؤمنوا برسل الله، والدليل أنهم كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام، والكافر برسول من الرسل كافر بالجميع، كيف وقد جاء محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بنسخ جميع الشرائع السابقة، قال الله - عز وجل -: {كذبت قوم نوح المرسلين } مع أنه لم يسبق نوحاً أحد من الرسل؛ لأن من كذب رسولاً من الرسل فقد كذب جميع الرسل، فكيف بمن كذب محمداً صلى الله عليه وسلم الذي نسخت شريعته جميع الشرائع، والذي قال الله فيه: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لمآ ءاتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به} أخذ ميثاق النبيين كلهم. {قال ءأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا} وهذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم ، الرسل كلهم يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا في ليلة الإسراء كان محمد صلى الله عليه وسلم إمامهم في صلاتهم، فاليهود والنصارى ليسوا من أهل الجنة بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لأنهم لم يؤمنوا برسله، لأنهم كفروا بمحمد، بل هم كفروا برسلهم أيضاً، لقوله تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين } ولأن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بشرهم بمحمد، قال الله - عز وجل - في سورة الصف {وإذ قال عيسى ابن مريم يبني إسرءيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} فلما جاءهم هذا الرسول الذي بشر به عيسى، قالوا: هذا سحر مبين، وكفروا به، فهم كفروا بعيسى وردوا بشارته وأنكروها، ولا يجوز لنا أبداً أن نقول أو نعتقد أن أديان اليهود والنصارى اليوم أديان صحيحة أبداً، بل هي أديان باطلة، غير مقبولة عند الله، كما قال الله - عز وجل -: {ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه} {ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} أي ما أعد الله لهؤلاء المؤمنين بالله ورسله فضل الله في أنهم آمنوا بالله وآمنوا برسله واتبعوا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم أثيبوا بهذه الجنات، {يؤتيه من يشاء} المشيئة هنا مقترنة بالحكمة، يعني من كان أهلاً للفضل آتاه الله الفضل، ومن لم يكن أهلاً له لم يؤته، والدليل قول الله - تبارك وتعالى -: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} فلن يجعل رسالته إلا فيمن هو أهل لها، وقال الله - عز وجل - {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم} وقال - عز وجل -: {فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون } فلا تظن أن الله يعطي الفضل لمن شاء بدون سبب، لابد من سبب، فمتى علم الله في قلب الإنسان خيراً آتاه الخير، قال الله تعالى: {يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأَسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً ممآ أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم} فأصلح قلبك فيما بينك وبين الله تجد الخير كله، {والله ذو الفضل العظيم }، أي: صاحب الفضل العظيم - عز وجل -، فلا أحد أعظم منة من الله تعالى، أوجدك من العدم، وأعدك وأمدك بالنعم، يسر لك الهدى، فلا أحد أعظم منة من الله، ولهذا قال الله - عز وجل -: {يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان} ولما جمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأنصار في غزوة حنين حين قسم الغنائم بين المؤلفة قلوبهم كان يقرر عليهم قال لهم: «ألم أجدكم ضلاَّلاً فهداكم الله بي» قالوا: الله ورسوله أمن. قال: «ألم أجدكم متفرقين فألف الله قلوبكم بي»؟ () قالوا: الله ورسوله أمن. كلما قال قولاً قالوا: الله ورسوله أمن، يعني أعظم منة، فالحاصل أن الله تعالى ذو الفضل العظيم، ولكن يؤتي فضله من هو مستحق له، كما قال - عز وجل -: {ويؤت كل ذي فضل فضله} اللهم إني أسألك من فضلك العظيم أن تهدي قلوبنا وتصلح أعمالنا، وتختم لنا بخير إنك على كل شيء قدير.
تابع ...