تفسير سورة الزلزلة =
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{إِذَا زُلْزِلَتِ الاَْرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَنُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَلَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{إذا زلزلت الأرض زلزالها} المراد بذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد} [الحج: 1، 2]. وقوله: {زلزالها} يعني الزلزال العظيم الذي لم يكن مثله قط، ولهذا يقول الله عز وجل: {ترى الناس سكارى وما هم بسكارى} يعني من شدة ذهولهم وما أصابهم تجدهم كأنهم سكارى، وما هم بسكارى بل هم صحاة، لكن لشدة الهول صار الإنسان كأنه سكران لا يدري كيف يتصرف، ولا كيف يفعل. {وأخرجت الأرض أثقالها} المراد بهم: أصحاب القبور، فإنه إذا نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون، يخرجون من قبورهم لرب العالمين عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: {يوم يقوم الناس لرب العالمين} [المطففين: 6]. {وقال الإنسان مالها} الإنسان المراد به الجنس، يعني أن الإنسان البشر يقول: ما لها؟ أي شيء لها هذا الزلزال؟ ولأنه يخرج وكأنه كما قال الله تعالى: {سكارى} [الحج: 2]. فيقول: ما الذي حدث لها وما شأنها؟ لشدة الهول. {يومئذ} أي في ذلك اليوم إذا زلزلت {تحدث أخبارها} أي تخبر عما فعل الناس عليها من خير أو شر، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن المؤذن إذا أذن فإنه لا يسمع صوته شجر، ولا مدر، ولا حجر، ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة، فتشهد الأرض بما صنع عليها من خير أو شر، وهذه الشهادة من أجل بيان عدل الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى لا يؤاخذ الناس إلا بما عملوه، وإلا فإن الله تعالى بكل شيء محيط، ويكفي أن يقول لعباده جل وعلا عملتم كذا وعملتم كذا.. لكن من باب إقامة العدل وعدم إنكار المجرم؛ لأن المجرمين ينكرون أن يكونوا مشركين، قال الله تعالى: {ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين} [الأنعام: 23]. لأنهم إذا رأوا أهل التوحيد قد خلصوا من العذاب ونجوا منه أنكروا الشرك لعلهم ينجون، ولكنهم يختم على أفواههم، وتكلم الأيدي، وتشهد الأرجل والجلود والألسن كلها تشهد على الإنسان بما عمل، وحينئذ لا يستيطع أن يبقى على إنكاره بل يقر ويعترف، إلا أنه لا ينفع الندم في ذلك الوقت. وقوله: {يومئذ تحدث أخبارها} هو جواب الشرط في قوله تعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها}. قوله: {بأن ربك أوحى لها} أي بسبب أن الله أوحى لها، يعني أذن لها في أن تحدث أخبارها، وهو سبحانه وتعالى على كل شيء قدير إذا أمر شيئاً بأمر فإنه لابد أن يقع، يخاطب الله الجماد فيتكلم الجماد كما قال الله تعالى: {ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين} [فصلت: 11]. وقال الله تعالى للقلم اكتب، قال: ربِّ وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقال الله تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} [يس: 65]. فالله عز وجل إذا وجه الكلام إلى شيء ولو جماداً فإنه يخاطب الله ويتكلم ولهذا قال: {يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها} قوله: {يومئذ} يعني يومئذ تزلزل الأرض زلزالها. {يصدر الناس أشتاتاً} أي جماعات متفرقين، يصدرون كل يتجه إلى مأواه، فأهل الجنة ـ جعلنا الله منهم ـ يتجهون إليها، وأهل النار ـ والعياذ بالله ـ يساقون إليها {يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً. ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً. لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} [مريم: 85 ـ 87]. فيصدر الناس جماعات وزمراً على أصناف متباينة تختلف اختلافاً كبيراً كما قال الله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللاخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً} [الإسراء: 21]. {ليروا أعمالهم} يعني يصدرون أشتاتاً فيروا أعمالهم، يريهم الله تعالى أعمالهم إن خيراً فخير، وإن شًّرا فشر، وذلك بالحساب وبالكتاب، فيعطى الإنسان كتابه إما بيمينه، وإما بشماله، ثم يحاسب على ضوء ما في هذا الكتاب، يحاسبه الله عز وجل، أما المؤمن فإن الله تعالى يخلو به وحده ويقرره بذنوبه ويقول: فعلت كذا، وفعلت كذا وكذا، وفعلت كذا، حتى يقر ويعترف، فإذا رأى أنه هلك، قال الله عز وجل: «إني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم»، وأما الكافر ـ والعياذ بالله ـ فإنه لا يعامل هذه المعاملة بل ينادى على رؤوس الأشهاد {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18]. وقوله: {ليروا أعمالهم} هذا مضاف والمضاف يقتضي العموم وظاهره أنهم يرون الأعمال الصغير والكبير وهو كذلك، إلا ما غفره الله من قبل بحسنات، أو دعاء أو ما أشبه ذلك فهذا يمحى كما قال الله تعالى {إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114]. فيرى الإنسان عمله، يرى عمله القليل والكثير حتى يتبين له الأمر جليًّا ويعطى كتابه ويقال: {اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً} [الإسراء: 64]. ولهذا يجب على الإنسان أن لا يقدم على شيء لا يرضي الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه مكتوب عليه، وأنه سوف يحاسب عليه. {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره} {من} شرطية تفيد العموم، يعني: أي إنسان يعمل مثقال ذرة فإنه سيراه، سواء من الخير، أو من الشر {مثقال ذرة} يعني وزن ذرة، والمراد بالذرة: صغار النمل كما هو معروف، وليس المراد بالذرة: الذرة المتعارف عليها اليوم كما ادعاه بعضهم، لأن هذه الذرة المتعارف عليها اليوم ليست معروفة في ذلك الوقت، والله عز وجل لا يخاطب الناس إلا بما يفهمون، وإنما ذكر الذرة لأنها مضرب المثل في القلة، كما قال الله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} [النساء: 40]. ومن المعلوم أن من عمل ولو أدنى من الذرة فإنه سوف يجده، لكن لما كانت الذرة مضرب المثل في القلة قال الله تعالى {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره}.
وقوله تبارك وتعالى: {مثقال ذرة} يفيد أن الذي يوزن هو الأعمال، وهذه المسألة اختلف فيها أهل العلم:
فمن العلماء من قال: إن الذي يوزن العمل.
ومنهم من قال: إن الذي يوزن صحائف الأعمال.
ومنهم من قال: إن الذي يوزن هو العامل نفسه.
ولكل دليل، أما من قال: إن الذي يوزن هو العمل فاستدل بهذه الاية {فمن يعمل مثقال ذرة} لأن تقدير الاية فمن يعمل عملاً مثقال ذرة. واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
لكن يشكل على هذا أن العمل ليس جسماً يمكن أن يوضع في الميزان بل العمل عمل انتهى وانقضى.
ويجاب عن هذا بأن يقال:
أولاً: على المرء أن يصدق بما أخبر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلّم من أمور الغيب، وإن كان عقله قد يحار فيه، ويتعجب ويقول كيف يكون هذا؟ فعليه التصديق لأن قدرة الله تعالى فوق ما نتصور، فالواجب على المسلم أن يسلم ويستسلم ولا يقول كيف؟ لأن أمور الغيب فوق ما يتصور.
ثانياً: أن الله تعالى يجعل هذه الأعمال أجساماً توضع في الميزان وتثقل وتخف، والله تعالى قادر على أن يجعل الأمور المعنوية أجساماً، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلّم في أن الموت يؤتى به على صورة كبش ويوقف بين الجنة والنار فيقال: يا أهل الجنة فيشرئبون ويطلعون ويقال: يا أهل النار فيشرئبون ويطلعون فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، مع أنه في صورة كبش والموت (معنى) ليس جسماً ولكن الله تعالى يجعله جسماً يوم القيامة، فيقولون: هذا الموت فيذبح أمامهم ويقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت، وبهذا يزول الإشكال الوارد على هذا القول.
أما من قال: إن الذي يوزن هو صحائف الأعمال فاستدلوا بحديث صاحب البطاقة الذي يؤتى يوم القيامة به، ويقال: انظر إلى عملك فتمد له سجلات مكتوب فيها العمل السيىء، سجلات عظيمة، فإذا رأى أنه قد هلك أتي ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقال له: إنك لا تظلم شيئاً، ثم توزن البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فترجح بهن البطاقة وهي لا إله إلا الله قالوا فهذا دليل على أن الذي يوزن هو صحائف الأعمال.
وأما الذين قالوا: إن الذي يوزن هو العامل نفسه فاستدلوا بحديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان ذات يوم مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهبت ريح شديدة، فقام عبدالله بن مسعود رضي الله عنه فجعلت الريح تكفئه؛ لأنه نحيف القدمين والساقين، فجعل الناس يضحكون، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «مما تضحكون؟ أو مما تعجبون؟ والذي نفسي بيده إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد» وهذا يدل على أن الذي يوزن هو العامل.
فيقال: نأخذ بالقول الأول: أن الذي يوزن العمل، ولكن ربما يكون بعض الناس توزن صحائف أعماله، وبعض الناس يوزن هو بنفسه.
فإن قال قائل: على هذا القول أن الذي يوزن هو العامل هل ينبني هذا على أجسام الناس في الدنيا وأن صاحب الجسم الكبير العظيم يثقل ميزانه يوم القيامة؟
فالجواب: لا ينبني على أجسام الدنيا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة»، وقال: اقرؤا {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً}. [الكهف: 105]. وهذا عبدالله بن مسعود يقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إن ساقيه في الميزان أثقل من أحد»، فالعبرة بثقل الجسم أو عدمه، ثقله يوم القيامة بما كان معه من أعمال صالحة. يقول عز وجل: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شًّرا يره}.
وهذه السورة كلها التحذير والتخويف من زلزلة الأرض، وفيها الحث على الأعمال الصالحة، وفيها أن العمل لا يضيع مهما قل، حتى لو كان مثقال ذرة، أو أقل فإنه لابد أن يراه الإنسان ويطلع عليه يوم القيامة. نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالخير والسعادة والصلاح والفلاح، وأن يجعلنا ممن يحشرون إلى الرحمن وفداً إنه على كل شيء قدير.
تفسير سورة العاديات=
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالْعَدِيَتِ ضَبْحاً * فَالمُورِيَتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الإِنسَنَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{والعاديات ضبحاً} هذا قسم، والعاديات صفة لموصوف محذوف فما هو هذا الموصوف؟ هل المراد الخيل يعني (والخيل العاديات) أو المراد الإبل يعني (والإبل العاديات)؟ في هذا قولان للمفسرين: فمنهم من قال: إن الموصوف هي الإبل، والتقدير (والإبل العاديات) ويعني بها الإبل التي تعدوا من عرفة إلى مزدلفة، ثم إلى منى، وذلك في مناسك الحج، واستدلوا لهذا بأن هذه السورة مكية، وأنه ليس في مكة جهاد على الخيل حتى يقسم بها.
أما القول الثاني لجمهور المفسرين وهو الصحيح فإن الموصوف هو الخيل والتقدير (والخيل العاديات) والخيل العاديات معلومة للعرب حتى قبل مشروعية الجهاد، هناك خيل تعدو على أعدائها سواء بحق أو بغير حق فيما قبل الإسلام، أما بعد الإسلام فالخيل تعدوا على أعدائها بحق. يقول الله تعالى: {والعاديات} والعادي اسم فاعل من العدو وهو سرعة المشي والانطلاق، وقوله: {ضبحاً} الضبح ما يسمع من أجواف الخيل حين تعدوا بسرعة، يكون لها صوت يخرج من صدورها، وهذا يدل على قوة سعيها وشدته. {فالموريات قدحاً} الموريات من أورى أو وري بمعنى قدح، ويعني بذلك قدح النار حينما يضرب الأحجار بعضها بعضاً، كما هو مشهور عندنا في حجر المرو، فإنك إذا ضربت بعضه ببعض انقدح، هذه الخيل لقوة سعيها وشدته، وضربها الأرض، إذا ضربت الحجر ضرب الحجر الحجر الثاني ثم يقدح ناراً، وذلك لقوتها وقوة سعيها وضربها الأرض. {فالمغيرات صبحاً} أي التي تغير على عدوها في الصباح، وهذا أحسن ما يكون في الإغارة على العدو أن يكون في الصباح لأنه في غفلة ونوم، وحتى لو استيقظ من الغارة فسوف يكون على كسل وعلى إعياء، فاختار الله عز وجل للقسم بهذه الخيول أحسن وقت للإغارة وهو الصباح، وكان النبي صلى الله عليه وسلّم لا يغير على قوم في الليل بل ينتظر فإذا أصبح إن سمع أذان كف وإلا أغار. {فأثرن به} أي أثرن بهذا العدو، وهذه الإغارة {نقعاً} وهو الغبار الذي يثور من شدة السعي، فإن الخيل إذا سعت إذا اشتد عدوها في الأرض، وصار لها غبار من الكر والفر. {فوسطن به} أي توسطن بهذا الغبار {جمعاً} أي جموعاً من الأعداء أي أنها ليس لها غاية، ولا تنتهي غايتها إلا وسط الأعداء، وهذه غاية ما يكون من منافع الخيل، مع أن الخيل كلها خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة». أقسم الله تعالى بهذه العاديات ـ بهذه الخيل التي بلغت الغاية ـ وهو الإغارة على العدو وتوسط العدو، من غير خوف ولا تعب ولا ملل. أما المقسم عليه فهو الإنسان فقال: {إن الإنسان لربه لكنود} والمراد بالإنسان هنا الجنس، أي أن جنس الإنسان، إذا لم يوفق للهداية فإنه {لكنود} أي كفور لنعمة الله عز وجل كما قال الله تبارك وتعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً} [الأحزاب: 72]. وقيل: المراد بالإنسان هو الكافر، فعلى هذا يكون عامًّا أريد به الخاص، والأظهر أن المراد به العموم، وأن جنس الإنسان لولا هداية الله لكان كنوداً لربه عز وجل، والكنود هو الكفر، أي كافر لنعمة الله عز وجل، يرزقه الله عز وجل فيزداد بهذا الرزق عتواً ونفوراً، فإن من الناس من يطغى إذا رآه قد استغنى عن الله، وما أكثر ما أفسد الغنى من بني آدم فهو كفور بنعمة الله عز وجل، يجحد نعمة الله، ولا يقوم بشكرها، ولا يقوم بطاعة الله لأنه كنود لنعمة الله. {وإنه على ذلك لشهيد} {إنه} الضمير قيل: يعود على الله، أي أن الله تعالى يشهد على العبد بأنه كفور لنعمة الله.
وقيل: إنه عائد على الإنسان نفسه، أي أن الإنسان يشهد على نفسه بكفر نعمة الله عز وجل.
والصواب أن الاية شاملة لهذا وهذا، فالله شهيد على ما في قلب ابن آدم، وشهيد على عمله، والإنسان أيضاً شهيد على نفسه، لكن قد يقر بهذه الشهادة في الدنيا، وقد لا يقر بها فيشهد على نفسه يوم القيامة كما قال تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]. {وإنه} أي الإنسان {لحب الخير لشديد} الخير هو المال كما قال الله تعالى {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية} [البقرة: 180]. أي: إن ترك مالاً كثيراً. فالخير هو المال، والإنسان حبه للمال أمر ظاهر، قال الله تعالى: {وتحبون المال حبًّا جًّما} [الفجر: 20]. ولا تكاد تجد أحداً يسلم من الحب الشديد للمال، أما الحب مطلق الحب فهذا ثابت لكل أحد، ما من إنسان إلا ويحب المال، لكن الشدة ليست لكل أحد، بعض الناس يحب المال الذي تقوم به الكفاية، ويستغني به عن عبادالله، وبعض الناس يريد أكثر، وبعض الناس يريد أوسع وأوسع. فالمهم أن كل إنسان فإنه محب للخير أي للمال، لكن الشدة تختلف، ويختلف فيها الناس من شخص لاخر، ثم إن الله تعالى ذكَّر الإنسان حالاً لابد له منها فقال: {أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور} فيعمل لذلك، ولا يكن همه المال {أفلا يعلم} أي يتيقن. {إذا بعثر ما في القبور} أي: نشر وأظهر فإن الناس يخرجون من قبورهم لرب العالمين، كأنهم جراد منتشر، يخرجون جميعاً بصيحة واحدة {إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} [يس: 53]. {وحصل ما في الصدور} أي ما في القلوب من النيات، وأعمال القلب كالتوكل، والرغبة، والرهبة، والخوف، والرجاء وما أشبه ذلك. وهنا جعل الله عز وجل العمدة ما في الصدور كما قال تعالى: {يوم تبلى السرائر. فما له من قوة ولا ناصر} [الطارق: 9، 10]. لأنه في الدنيا يعامل الناس معاملة الظاهر، حتى المنافق يعامل كما يعامل المسلم حقًّا، لكن في الاخرة العمل على ما في القلب، ولهذا يجب علينا أن نعتني بقلوبنا قبل كل شيء قبل الأعمال؛ لأن القلب هو الذي عليه المدار، وهو الذي سيكون الجزاء عليه يوم القيامة، ولهذا قال: {وحصل ما في الصدور} ومناسبة الايتين بعضهما لبعض أن بعثرة ما في القبور إخراج للأجساد من بواطن الأرض، وتحصيل ما في الصدور إخراج لما في الصدور، مما تكنه الصدور، فالبعثرة بعثرة ما في القبور عما تكنه الأرض، وهنا عما يكنه الصدر، والتناسب بينهما ظاهر. {إن ربهم بهم يومئذ لخبير} أي إن الله عز وجل بهم: أي: بالعباد لخبير، وجاء التعبير {بهم} ولم يقل (به) مع أن الإنسان مفرد، باعتبار المعنى، أي: أنه أعاد الضمير على الإنسان باعتبار المعنى، لأن معنى {إن الإنسان} أي: أن كل إنسان، وعلق العلم بذلك اليوم {إن ربهم بهم يومئذ} لأنه يوم الجزاء، والحساب، وإلا فإن الله تعالى عليم خبير في ذلك اليوم وفيما قبله، فهو جل وعلا عالم بما كان، وما يكون لو كان كيف يكون.
هذا هو التفسير اليسير لهذه السورة العظيمة، ومن أراد البسط فعليه بكتب التفاسير التي تبسط القول في هذا، ونحن إنما نشير إلى المعاني إشارة موجزة. نسأل الله تعالى الهداية والتوفيق، وأن يجعلنا ممن يتلون كتاب الله حق تلاوته، إنه على كل شيء قدير.
انتهى تفسيره رحمه الله .