تفسير سورة العصر
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَنَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
يقول الله عز وجل: {والعصر. إن الإنسان لفي خسر} أقسم الله تعالى بالعصر، والعصر قيل: إن المراد به آخر النهار، لأن آخر النهار أفضله، وصلاة العصر تسمى الصلاة الوسطى، أي: الفضلى كما سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك.
وقيل: إن العصر هو الزمان. وهذا هو الأصح أقسم الله به لما يقع فيه من اختلاف الأحوال، وتقلبات الأمور، ومداولة الأيام بين الناس وغير ذلك مما هو مشاهد في الحاضر، ومتحدث عنه في الغائب. فالعصر هو الزمان الذي يعيشه الخلق، وتختلف أوقاته شدة ورخاء، وحرباً وسلماً، وصحة ومرضاً، وعملاً صالحاً وعملاً سيئاً إلى غير ذلك مما هو معلوم للجميع. أقسم الله به على قوله: {إن الإنسان لفي خسر} والإنسان هنا عام، لأن المراد به الجنس، وعلامة الإنسان الذي يراد به العموم أن يحل محل «ال» كلمة «كل» فهنا لو قيل: كل إنسان في خسر لكان هذا هو المعنى. ومعنى الاية الكريمة أن الله أقسم قسماً على حال الإنسان أنه في خسر أي: في خسران ونقصان في كل أحواله، في الدنيا وفي الاخرة إلا من استثنى الله عز وجل. وهذه الجملة مؤكدة بثلاث مؤكدات، الأول: القسم، والثاني: (إنّ) والثالث: (اللام) وأتى بقوله {لفي خسر} ليكون أبلغ من قوله: (لخاسر) وذلك أن «في» للظرفية فكأن الإنسان منغمس في الخسر، والخسران محيط به من كل جانب. {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}. استثنى الله سبحانه وتعالى هؤلاء المتصفين بهذه الصفات الأربع:
الصفة الأولى: الإيمان الذي لا يخالجه شك ولا تردد بما بينه الرسول صلى الله عليه وسلّم حين سأله جبريل عن الإيمان قال: «أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الاخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره». وشرح هذا الحديث يطول وتكلمنا عليه في مواطن كثيرة، فالذين آمنوا بهذه الأصول الستة هم المؤمنون، ولكن يجب أن يكون إيماناً لا شك معه ولا تردد. بمعنى: أنك تؤمن بهذه الأشياء وكأنك تراها رأي العين. والناس في هذا المقام ثلاثة أقسام:
القسم الأول: مؤمن خالص الإيمان؛ إيماناً لا شك فيه ولا تردد.
والقسم الثاني: كافر جاحد منكر.
والقسم الثالث: متردد. والناجي من هؤلاء القسم الأول الذي يؤمن إيماناً لا تردد فيه، يؤمن بوجود الله، وربوبيته، وألوهيته، وبأسمائه وصفاته عز وجل، ويؤمن بالملائكة وهم عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وكلفهم بأعمال منها ما هو معلوم، ومنها ما ليس بمعلوم، فجبريل عليه الصلاة والسلام مكلف بالوحي ينزل به من عند الله إلى الأنبياء والرسل، وميكائيل مكلف بالقطر والنبات يعني: وكله الله على المطر وكل ما يتعلق بالمطر وعلى النبات. وإسرافيل: موكل بالنفخ بالصور، ومالك: موكل بالنار، ورضوان موكل بالجنة. ومن الملائكة من لا نعلم أسمائهم ولا نعلم أعمالهم أيضاً، لكن جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه ما من موضع أربع أصابع في السماء إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع، أو ساجد»، كذلك نؤمن بالكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ونؤمن بالرسل الذين قصهم الله علينا، نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم يقصهم علينا نؤمن بهم إجمالاً؛ لأن الله لم يقص علينا جميع أنباء الرسل، قال الله تعالى: {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} [غافر: 78]. واليوم الاخر هو يوم البعث يوم يخرج الناس من قبورهم للجزاء حفاة، عراة، غرلاً، بهماً. فالحفاة يعني الذين ليس عليهم نعال ولا خفاف أي: أقدامهم عارية، والعراة: الذين ليس عليهم ثياب، والغرل: الذين لم يُختنوا. والبهم: الذين ليس معهم مال يحشرون كذلك، ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بأنهم عراة قالت عائشة: يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ قال: «الأمر أعظم من ذلك» أي من أن ينظر بعضهم إلى بعض، لأن الناس كل مشغول بنفسه. قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن الإيمان باليوم الاخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما يكون بعد الموت، فيجب أن تؤمن بفتنة القبر أي: بالاختبار الذي يكون للميت إذا دفن وتولى عنه أصحابه، فإنه يأتيه ملكان يسألانه عن ربه، ودينه، ونبيه، وتؤمن كذلك بأن القبر إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار. أي أن فيه العذاب أو الثواب، وتؤمن كذلك بالجنة والنار وكل ما يتعلق باليوم الاخر فإنه داخل في قولنا «أن تؤمن بالله واليوم الاخر» والقدر: تقدير الله عز وجل يعني: يجب أن تؤمن بأن الله تعالى قدر كل شيء وذلك أن الله خلق القلم فقال له: اكتب. قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة. إذاً فالإيمان في قوله: {إلا الذين آمنوا} يشمل الإيمان بالأصول الستة التي بينها الرسول عليه الصلاة والسلام. أما قوله: {وعملوا الصالحات} فمعناه: أنهم قاموا بالأعمال الصالحة: من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج، وبر للوالدين، وصلة الأرحام وغير ذلك فلم يقتصروا على مجرد ما في القلب بل عملوا وأنتجوا و{الصالحات} هي التي اشتملت على شيئين:
الأول: الإخلاص لله عز وجل.
والثاني: المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام.
وذلك أن العمل إذا لم يكن خالصاً لله فهو مردود. قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال الله: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه». فلو قمت تصلي مراءاة للناس، أو تصدقت مراءاة للناس، أو طلبت العلم مراءاة للناس، أو وصلت الرحم مراءاة للناس أو غير ذلك. فالعمل مردود حتى وإن كان صالحاً في ظاهره. كذلك الاتباع لو أنك عملت عملاً لم يعمله الرسول عليه الصلاة والسلام وتقربت به إلى الله مع الإخلاص لله فإنه لا يقبل منك لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». إذاً العمل الصالح ما جمع وصفين: الأول: الإخلاص لله عز وجل. والثاني: المتابعة للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم. {وتواصوا بالحق} أي: صار بعضهم يوصي بعضاً بالحق. والحق: هو الشرع. يعني كل واحد منهم يوصي الاخر إذا رآه مفرطاً في واجب. أوصاه وقال: يا أخي قم بالواجب، إذا رآه فاعلاً لمحرم أوصاه قال: يا أخي اجتنب الحرام، فهم لم يقتصروا على نفع أنفسهم بل نفعوا أنفسهم وغيرهم، {وتواصوا بالصبر} أي: يوصي بعضهم بعضاً بالصبر، والصبر حبس النفس عما لا ينبغي فعله، وقسمه أهل العلم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: صبر على طاعة الله.
القسم الثاني: صبر عن محارم الله.
القسم الثالث: صبر على أقدار الله.
الصبر على الطاعة، كثير من الناس يكون فيه كسل عن الصلاة مع الجماعة مثلاً: لا يذهب إلى المسجد يقول أصلي في البيت وأديت الواجب فيكسل فقال له: يا أخي أصبر نفسك، احبسها كلفها على أن تصلي مع الجماعة. كثير من الناس إذا رأى زكاة ماله كثيرة شح وبخل وصار يتردد. أُخرج هذا المال الكثير، أو أتركه وما أشبه ذلك. فيقال له: يا أخي اصبر نفسك على أداء الزكاة، وهكذا بقية العبادات فإن العبادات كما قال الله تعالى في الصلاة: {وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة: 45]. أكثر عباد الله تجد أن العبادات عليهم ثقيلة، فهم يتواصون بالصبر على الطاعة، كذلك الصبر عن المعصية بعض الناس مثلاً تجره نفسه إلى أكساب محرمة إما بالربا، وإما بالغش، وإما بالتدليس أو بغير ذلك من أنواع الحرام فيقال له: اصبر يا أخي أصبر نفسك لا تتعامل على وجه محرم. بعض الناس أيضاً يبتلى بالنظر إلى النساء تجده ماشياً في السوق وكل ما مرت امرأة أتبعها بصره فيقال له: يا أخي اصبر نفسك عن هذا الشيء.
ويتواصون على أقدار الله، يصاب الإنسان بمرض في بدنه، يصاب الإنسان بفقد شيء من ماله، يصاب الإنسان بفقد أحبته فيجزع ويتسخط ويتألم فيتواصون فيما بينهم، اصبر يا أخي هذا أمر مقدر والجزع لا يفيد شيئاً، واستمرار الحزن لا يرفع الحزن، إنسان امتحن بموت ابنه نقول: يا أخي اصبر، قدر أن هذا الابن لم يُخلق، ثم كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام لإحدى بناته: «إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب». الأمر كله لله، فإذا أخذ الله تعالى ملكه كيف تعتب على ربك؟ كيف تتسخط.
فإن قيل: أي أنواع الصبر أشق على النفوس؟
فالجواب: هذا يختلف، فبعض الناس يشق عليه القيام بالطاعة وتكون ثقيلة عليه جداً، وبعض الناس بالعكس الطاعة هينة عليه، لكن ترك المعصية صعب، شاق مشقة كبيرة، وبعض الناس يسهل عليه الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، لكن لا يتحمل الصبر على المصائب، يعجز حتى إنه قد تصل به الحال إلى أن يرتد ـ والعياذ بالله ـ كما قال الله تعالى: {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين} [الحج: 11]. إذاً نأخذ من هذه السورة أن الله سبحانه وتعالى أكد بالقسم المؤكد بإن، واللام أن جميع بني آدم في خسر، والخسر محيط بهم من كل جانب، إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: «لو لم ينزل الله على عباده حجة إلا هذه السورة لكفتهم». يعني: كفتهم موعظة وحثاً على التمسك بالإيمان والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على ذلك. وليس مراده أن هذه السورة كافية للخلق في جميع الشريعة، لكن كفتهم موعظة، فكل إنسان عاقل يعرف أنه في خُسر إلا إذا اتصف بهذه الصفات الأربع، فإنه سوف يحاول بقدر ما يستطيع أن يتصف بهذه الصفات الأربع، وإلى تخليص نفسه من الخسران. نسأل الله أن يجعلنا من الرابحين الموفقين، إنه على كل شيء قدير.
تفسير سورة الهمزة
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ * الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاَْفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ويل لكل همزة} في هذه السورة يبتدىء الله سبحانه وتعالى بكلمة {ويل} وهي كلمة وعيد، أي أنها تدل على ثبوت وعيد لمن اتصف بهذه الصفات. {همزة لمزة} إلى آخره، وقيل: إن {ويل} اسم لوادٍ في جهنم ولكن الأول أصح. {لكل همزة لمزة} كل من صيغ العموم، والهمزة واللمزة وصفان لموصوف واحد، فهل هما بمعنى واحد؟ أو يختلفان في المعنى؟
قال بعض العلماء: إنهما لفظان لمعنى واحد، يعني أن الهمزة هو اللمزة. وقال بعضهم: بل لكل واحد منهما معنى غير المعنى الاخر.
وثم قاعدة أحب أن أنبه عليها في التفسير وغير التفسير وهي: أنه إذا دار الأمر بين أن تكون الكلمة مع الأخرى بمعنى واحد، أو لكل كلمة معنى، فإننا نجعل لكل واحدة معنى، لأننا إذا جعلنا الكلمتين بمعنى واحد صار في هذا تكرار لا داعي له، لكن إذا جعلنا كل واحدة لها معنى صار هذا تأسيسًا وتفريقًا بين الكلمتين، والصحيح في هذه الاية {لكل همزة لمزة} أن بينهما فرقًا: فالهمزة: بالفعل. واللمز: باللسان، كما قال الله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} [التوبة: 58]. فالهمز بالفعل يعني أنه يسخر من الناس بفعله إما أن يلوي وجهه، أو يعبس بوجهه. أو ما أشبه ذلك، أو بالإشارة يشير إلى شخص، انظروا إليه ليعيبه أو ما أشبه ذلك، فالهمز يكون بالفعل، واللمز باللسان، وبعض الناس ـ والعياذ بالله ـ مشغوف بعيب البشر إما بفعله وهو الهمَّاز، وإما بقوله وهو اللمَّاز، وهذا كقوله تعالى: {ولا تطع كل حلاَّف مهين. هَّماز مشاء بنميم} [القلم: 10، 11]. {الذي جمع مالاً وعدده} هذه أيضاً من أوصافه القبيحة جماع مناع، يجمع المال، ويمنع العطاء، فهو بخيل لا يعطي يجمع المال ويعدده. {وعدده} وقيل: معنى التعديد يعني الإحصاء يعني لشغفه بالمال كل مرة يذهب إلى الصندوق ويعد، يعد الدراهم في الصندوق في الصباح، وفي آخر النهار يعدها، وهو يعرف أنه لم يأخذ منه شيئاً ولم يضف إليه شيئاً لكن لشدة شغفه بالمال يتردد عليه ويعدده، ولهذا جاءت بصيغة المبالغة {عدده} يعني أكثر تعداده لشدة شغفه ومحبته له يخشى أن يكون نقص، أو يريد أن يطمئن زيادة على ما سبق فهو دائماً يعدد المال.
وقيل معنى {عدده} أي جعله عُدة له يعني ادخره لنوائب الدهر، وهذا وإن كان اللفظ يحتمله لكنه بعيد، لأن إعداد المال لنوائب الدهر مع القيام بالواجب بأداء ما يجب فيه من زكاة وحقوق ليس مذموماً، وإنما المذموم أن يكون أكبر هم الإنسان هو المال، يتردد إليه ويعدده، وينظر هل زاد، هل نقص، فالقول بأن المراد عدده أي: جمعه للمستقبل قول ضعيف. {يحسب أن ماله أخلده} يعني يظن هذا الرجل أن ماله سيخلده ويبقيه، إما بجسمه وإما بذكره، لأن عمر الإنسان ليس ما بقي في الدنيا، بل عمر الإنسان حقيقة ما يخلده بعد موته، ويكون ذكراه في قلوب الناس وعلى ألسنتهم، فيقول في هذه الاية: {يحسب أن ماله أخلده} أي: أخلد ذكره أو أطال عمره، والأمر ليس كذلك. فإن أهل الأموال إذا لم يُعرفوا بالبذل والكرم فإنهم يخلدون لكن بالذكر السيىء. فيقال: أبخل من فلان، وأبخل من فلان ويذكر في المجالس ويعاب، ولهذا قال: {كلا لينبذن في الحطمة} {كلا} هنا يسميها العلماء حرف ردع أي: تردع هذا القائل أو هذا الحاسب عن قوله أو عن حسبانه. ويحتمل أن تكون بمعنى حقًّا «يعني حقاً لينبذن» وكلاهما صحيح، هذا الرجل لن يخلده ماله، ولن يخلد ذكراه، بل سينسى ويطوى ذكره، وربما يذكر بالسوء لعدم قيامه بما أوجب الله عليه من البذل. {لينبذن في الحطمة} اللام هذه واقعة في جواب القسم المقدر، والتقدير «والله لينبذن في الحطمة» أي: يطرح طرحاً. وإذا قلنا: أن اللام لجواب القسم صارت هذه الجملة مؤكدة باللام، ونون التوكيد، والقسم المحذوف. ومثل هذا كثير في القرآن الكريم، أي تأكيد الشيء باليمين، واللام، والنون. والله تعالى يقسم بالشيء تأكيداً له وتعظيماً لشأنه. وقوله: {لينبذن} ما الذي يُنبذ هل هو صاحب المال أو المال؟ كلاهما ينبذ، أما صاحب المال فإن الله يقول في آية أخرى: {يوم يدَّعون إلى نار جهنم دعًّا} [الطور: 13]. أي: يدفعون، وهنا يقول: «ينبذ» أي يطرح في الحطمة، والحطمة هي التي تحطم الشيء، أي: تفتته وتكسره فما هي؟ قال الله تعالى: {وما أدراك ما الحطمة} وهذه الصيغة للتعظيم والتفخيم {نار الله الموقدة} هذا الجواب أي: هي نار الله الموقدة. وأضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه؛ لأنه يعذب بها من يستحق العذاب فهي عقوبة عدل وليست عقوبة ظلم. أي: نار يحرق الله بها من يستحق أن يُعذب بها، إذاً هي نار عدل وليست نار ظلم. لأن الإحراق بالنار قد يكون ظلماً وقد يكون عدلاً، فتعذيب الكافرين في النار لا شك أنه عدل، وأنه يُثنى به على الرب عز وجل حيث عامل هؤلاء بما يستحقون. وتأمل قوله: {الحطمة} مع فعل هذا الفاعل {همزة لمزة} حطمة، وهمزة لمزة، على وزن واحد ليكون الجزاء مطابقاً للعمل حتى في اللفظ {نار الله الموقدة} أي: المسجّرة المسعرة. {التي تطلع على الأفئدة} الأفئدة جمع فؤاد وهو القلب. والمعنى: أنها تصل إلى القلوب ـ والعياذ بالله ـ من شدة حرارتها، مع أن القلوب مكنونة في الصدور وبينها وبين الجلد الظاهر ما بينها من الطبقات لكن مع ذلك تصل هذه النار إلى الأفئدة. {إنها عليهم} أي: الحطمة وهي نار الله الموقدة أي على الهمَّاز واللمَّاز الجمَّاع للمال المناع للخير، وأعاد الضمير بلفظ الجمع مع أن المرجع مفرد باعتبار المعنى، لأن {لكل همزة} عام يشمل جميع الهمَّازين وجميع اللمَّازين {مؤصدة} أي: مغلقة، مغلقة الأبواب لا يُرجى لهم فرج ـ والعياذ بالله ـ {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} يعني: يرفعون إلى أبوابها حتى يطمعوا في الخروج ثم بعد ذلك يركسون فيها ويعادون فيها، كل هذا لشدة التعذيب؛ لأن الإنسان إذا طمع في الفرج وأنه سوف ينجو ويخلص يفرح، فإذا أعيد صارت انتكاسة جديدة، فهكذا يعذبون بضمائرهم وأبدانهم، وعذاب أهل النار مذكور مفصل في القرآن الكريم والسنة النبوية. تأمل الان لو أن إنسانًا كان في حجرة أو في سيارة اتقدت النيران فيها وليس له مهرب، الأبواب مغلقة ماذا يكون؟ في حسرة عظيمة لا يمكن أن يماثلها حسرة. فهم ـ والعياذ بالله ـ هكذا في النار، النار عليهم مؤصدة {في عمد ممددة} أي: أن هذه النار مؤصدة، وعليها أعمدة ممدة أي ممدودة على جميع النواحي والزوايا حتى لا يتمكن أحد من فتحها أو الخروج منها.
حكى الله سبحانه وتعالى ذلك علينا وبينه لنا في هذه السورة لا لمجرد أن نتلوه بألسنتنا، أو نعرف معناه بأفهامنا، لكن المراد أن نحذر من هذه الأوصاف الذميمة: عيب الناس بالقول، وعيب الناس بالفعل، والحرص على المال حتى كأن الإنسان إنما خلق للمال ليخلد له، أو يخلد المال له، ونعلم أن من كانت هذه حاله فإن جزاءه هذه النار التي هي كما وصفها الله، الحطمة، تطلع على الأفئدة، مؤصدة، في عمد ممدة. نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل والاستقامة على دينه.
تفسير سورة الفيل
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَبِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ}.
البسملة تقدم الكلام عليها.
{ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل} يخاطب الله تعالى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو يخاطب كل من يصح توجيه الخطاب إليه، فعلى الأول يكون خطاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خطاب له وللأمة؛ لأن أمته تابعة له، وعلى الثاني يكون الخطاب عام له ولأمته، ابتداءً، وعلى كلٍّ فإن الله تعالى يقرر ما فعل سبحانه وتعالى بأصحاب الفيل، وأصحاب الفيل هم أهل اليمن الذين جاؤوا لهدم الكعبة بفيل عظيم أرسله إليهم ملك الحبشة، وسبب ذلك أن ملك اليمن أراد أن يصد الناس عن الحج إلى الكعبة، بيت الله عز وجل فبنى بيتاً يشبه الكعبة، ودعى الناس إلى حجه ليصدهم عن حج بيت الله فغضب لذلك العرب، وذهب رجل منهم إلى هذا البيت الذي جعله ملك اليمن بدلاً عن الكعبة وتغوَّط فيه، ولطخ جدرانه بالقذر، فغضب ملك اليمن غضباً شديداً، وأخبر ملك الحبشة بذلك فأرسل إليه هذا الفيل العظيم قيل: وكان معه ستة فيلة لتساعده فجاء ملك اليمن بجنوده ليهدم الكعبة على زعمه، ولكن الله سبحانه حافظ بيته، فلما وصلوا إلى مكان يسمى المغمَّس وقف الفيل وحرن، وأبى أن يتجه إلى الكعبة فزجره سايسه ولكنه أبى، فإذا وجهوه إلى اليمن انطلق يهرول، وإن وجهوه إلى مكة وقف، وهذه آية من آيات الله عز وجل، ثم بقوا حتى أرسل الله عليهم طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل {ألم يجعل كيدهم في تضليل. وأرسل عليهم طيراً أبابيل. ترميهم بحجارة من سجيل} قال العلماء: {طيراً أبابيل} يعني: جماعات متفرقة، كل طير في منقاره حجر صلب {من سجيل} وهو الطين المشوي؛ لأنه يكون أصلب،
وهذا الحجر ليس كبيراً، بل هو صغير يضرب الواحد من هؤلاء مع رأسه ويخرج من دبره ـ والعياذ بالله ـ {فجعلهم كعصف مأكول} أي: كزرع أكلته الدواب ووطئته بأقدامها حتى تفتت.
هذا مجمل هذه السورة العظيمة التي بين الله سبحانه وتعالى فيها ما فعل بأصحاب الفيل وأن كيدهم صار في نحورهم، وهكذا كل من أراد الحق بسوء فإن الله تعالى يجعل كيده في نحره، وإنما حمى الله عز وجل الكعبة عن هذا الفيل مع أنه في آخر الزمان سوف يُسلط عليها رجل من الحبشة يهدمها حجراً حجراً حتى تتساوى بالأرض لأن قصة أصحاب الفيل مقدمة لبعثة الرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم التي يكون فيها تعظيم البيت. أما في آخر الزمان فإن أهل البيت إذا أهانوه وأرادوا فيه بإلحاد بظلم، ولم يعرفوا قدره حينئذ يسلط الله عليهم من يهدمه حتى لا يبقى على وجه الأرض، ولهذا يجب على أهل مكة خاصة أن يحترزوا من المعاصي والذنوب والكبائر، لئلا يُهينوا الكعبة فيذلهم الله عز وجل. نسأل الله تعالى أن يحمي ديننا وبيته الحرام من كيد كل كائد، إنه على كل شيء قدير.
انتهى تفسيره رحمه الله .