تأليف د محمد محمد يونس علي
على الرغم من اختلاف المدرسة الوظيفية functionalism عن المدرسة البنيوية في كثير من القضايا فإنها _ مثلها في ذلك مثل المدرسة التوليدية- تمثل اتجاها متفرعا عن البنيوية. ولذا فإن بعض اللسانيين يرون أن البنيوية هي الإطار العام الذي يشمل معظم –إن لم يكن كل- الاتجاهات التي ظهرت في القرن العشرين.
وتتميز المدرسة الوظيفية من غيرها من المدارس اللسانية"باعتقادها أن البنى الصياتية، والقواعدية، والدلالية محكومة بالوظائف التي تؤديها في المجتمعات التي تعمل فيها"،[1]، وفي ذلك خروج عن المبدأ الواضح الذي أرساه دو سوسور، وتبعه في ذلك البنيويون من أن البنى اللغوية ينبغي أن تدرس في حد ذاتها بغض النظر عن العناصر الخارجة عن اللغة بوصفها نظاما مجردا مستقلا، وتتلخص وجهة النظر الوظيفية في صعوبة الفصل بين البنية اللغوية، والسياق الذي تعمل فيه، والوظيفة التي تؤديها تلك البنية في السياق.
وتعد مدرسة براغ Prague School أفضل من يمثل الاتجاه الوظيفي في دراسة اللغة، وقد نشأت هذه المدرسة في أحضان حلقة براغ اللسانية Prague Linguistic Circle التي أسسها اللساني التشيكي فاليم ماثيوس Vilem Mathesius (1882-1945). ولم تقتصر المدرسة الوظيفية في عضويتها على اللسانيين المقيمين في براغ فقط بل شملت أيضا غيرهم ممن يقيمون في بقاع أخرى، وكانوا يشاركون المدرسة أصولها، وأفكارها الأساسية. وبعد وفاة ماثيوس قام لسانيون آخرون أبرزهم بيتر سغال Petr Sgall، وإيفا هاجيكوفا Eva Hajicova اللذان حافظا على مدرسة براغ في أحلك الظروف التي مرت بها إبان الحكم الشيوعي، وقد نجحا في إحياء حلقة براغ اللسانية رسميا في نوفمبر 1992 بعد سقوط الشيوعية بثلاث سنوات.[2] اشتهر مؤسس المدرسة ماثيوس بما يعرف بالنظرة الوظيفية للجملة، وهي التي سنناقشها في الفقرة التالية.
1- النظرة الوظيفية للجملة:
تعد النظرة الوظيفية للجملة functional sentence perspective امتدادا للمناقشة التقليدية الحامية التي كانت تحدث في نهاية القرن التاسع عشر حول ثنائية الموضوع subject، والمحمول predicate، وكان لأستاذ الفلسفة في براغ أنتون مارتي Anton Marty الذي كانت أفكاره مؤثرة في نشأة مدرسة براغ نشاط بارز في هذه المناقشة. وقد عبر ماثيوس عن أفكاره في شكل ثنائيات متمايزة تتعلق بالطرفين الأساسيين للجملة، وتأثير كيفية ترتيبهما في الوظيفة التي تؤديها الجملة. وهذه الثنائيات هي ثنائية الموضوع topic، والتعليق comment، أو البؤرة focus وثنائية المتقدم theme، والمتأخر rheme، وثنائية المسلّمة given، والإضافة new. فالمتقدم هو الشيء المتحدث عنه الذي يفترض المتكلم معرفة المخاطب له، والمتأخر هو الجزء المتمم للجملة الذي يضيف إلى معلومات المخاطب السابقة معلومات جديدة تتصل بالمتقدم، والمسلّمة هي ما يقدمه المتكلم من معلومات يدركها السامع من مصدر ما في المحيط (أي المقام، أو النص السابق)، والإضافة ما يقدمه المتكلم من معلومات لا يدركها السامع من مصادر أخرى،[3] ففي الجملتين:
(1) مؤسس الدولة الأموية هو معاوية بن أبي سفيان
(2) معاوية بن أبي سفيان هو مؤسس الدولة الأموية
نجد أن المعنى الإسنادي (أو النسبة الخارجية كما يقول المناطقة، والبلاغيّون) واحد فيهما، إذ كلاهما يفيد أن تأسيس الدولة الأموية كان على يد معاوية بن أبي سفيان، وبناء على ذلك فهما مترادفان تقريبا، ولكن من الواضح أنهما يستعملان في سياقيين مختلفين، واختلاف السياقين يفسر بما يعتقده المتكلم بشأن ما يعرفه المخاطب حول موضوع الجملتين، فكل جملة من الجملتين تفترض أن أحد الطرفين يعرفه المخاطَب، وهوتأسيس الدولة الأموية في الجملة الأولى، ومعاوية بن أبي سفيان في الثانية، وأن الطرف الثاني غير معروف، وهو من أسس الدولة الأموية في الجملة الأولى؟، ومن هو معاوية بن أبي سفيان في الجملة الثانية؟ فالمعلومات التي يفترض المتكلم أن المخاطب يعرفها تسمى مسلّمة given information، والمعلومات التي يضيفها تسمى إضافة، أو معلومة جديدة new information. وكما هو واضح فإن بنية كل جملة من الجملتين السابقتين محكوم بالوظيفة التي يريد المتكلم أن يؤديها خطابه، ففي (1) كانت الوظيفة (أي الغرض الإبلاغي) هي الإعلام بمن أسس الدولة الأموية، وفي (2) كانت الوظيفة هي التعريف بمعاوية بن أبي سفيان. إن الفرق الأساسي في معالجة البنيويين، والوظيفيين لهذه الجملة يتمثّل في أن البنيويين يصفونها كما هي في حين أن الوظيفيين يتساءلون عن سبب كونها كذلك؛ أي أن البنيويين يحاولون الإجابة عن كيف، أو ماذا، وأن الوظيفيين يحاولون الإجابة عن لماذا.
وتختلف اللغات في مدى حرية المتكلم في ترتيب المسند إليه، والمسند، فبينما تتيح العربية مثلا احتمالات مختلفة بسبب وجود قرينة الإعراب التي بها نستطيع أن نميز المعلومات المسلمة من المعلومات الجديدة، تعد الإنجليزية من اللغات التي تكون فيها الرتبة مقيدة إلى حد كبير؛ ولذا فهي تلجأ إلى قرينة التنغيم أكثر من غيرها في تحديد المعلومات المسلمة، والمعلومات الجديدة، وقد تلجأ أيضا إلى استخدام صيغة المجهول الذي تتضمن الأداة by كما في
The rat was eaten by the cat.
وهو الأسلوب الذي يترجم خطأً في العربية بـ الجرذ أكل من قبل القط، وترجمته الصحيحة هي الجرذ أكله القط؛ لأن هذه الترجمة تؤدي الوظيفة (أو الغرض البلاغي) التي يقصدها المتكلم، وهي إظهار العناية بالجرذ، وليس بالقط لأنه هو موضوع الحديث، وفي الوقت ذاته تحافظ على البنية المألوفة في العربية دون اللجوء إلى بنية غريبة مستوردة (وهي "من قبل" في السياق المذكور).
وإضافة إلى الإعراب تؤدي قرينة المطابقة في اللغة العربية، وكذلك اللغة التشيكية مهمة التمييز بين الفاعل، والمفعول، وهو ما يتيح للمتكلم اختيار من يقدم أولا الفاعل، أو المفعول حتى عند غياب قرينة الإعراب، وذلك كما في المثال الآتي:
ضربت عيسى يسرى.
ومن العناصر اللغوية الأخرى التي تحدد القديم من الجديد من المعلومات أداة التعريف (كـ ال في العربية، و the في الإنجليزية)، حيث يشير العنصر المرتبط بها إلى شيء يعرفه المخاطب، أما غيابها، أو وجود أداة التنكير (كالتنوين في العربية، وa في الإنجليزية) فيفيد أن العنصر المرتبط بها لا يعرفه المخاطب. ومن الأمثلة التي يمكن ذكرها هنا قوله تعالى:
"ولقد أرسلنا إلى فرعون رسولا، فعصى فرعون الرسول". (القرآن الكريم، المزمل 16: 73).
فقد أشارت كلمة "رسولا" الخالية من أداة التعريف إلى مرجع غير معروف في حين كان دخول ال على كلمة رسول الثانية سببا في تحديد المقصود بالرسول.
ويرى اللسانيون الوظيفيون أن المخاطِب هو الذي يقرر أي من المعلومات ينبغي أن يعد من المسلمات، وأيها ينبغي أن يعد جديدا، وقد أكد هاليدي Halliday هذه الحقيقة عندما ذهب إلى القول بأن "الذي يحدد وضع المعلومة ليس بنية الخطاب بل المتكلم".[4] ومن الوسائل المعينة لمعرفة المعلومة المسلمة من المعلومة الجديدة في قولةٍ ما هو أن نجعل القولة جوابا لسؤال نسأله بعد النظر في محتواها الدلالي، انظر كيف يمكن أن نعرف المعلومة الجديدة من خلال طرح الأسئلة في القولات الآتية:[5]
س1- ماذا فعل القط؟
ج1- لقد أكل الجرذ.
س2- ماذا حدث للجرذ؟
ج2- لقد أكله القط.
س3- هل الكلب أكل الجرذ؟
ج3- لا، بل القط هو الذي أكل الجرذ.
س4- هل القط أكل الجرذ؟
ج4- لا، بل الجرذ هو الذي أكله القط.
لاحظ أن المعلومة المسلمة يشار إليها بالضمير كما في الجواب رقم (1) حيث أشير إلى القط بالضمير المستتر في "أكل".
ويقسم الوظيفيون ما تعورف عليه بالمتقدم ثلاثة أقسام: المتقدم الموضوعي topical theme، والمتقدم الشخصي interpersonal theme، والمتقدم النصي textual theme.[6] فمثال المتقدم الموضوعي القط في نحو "القط أكل الجرذ"، ومثال المتقدم الشخصي بصراحة في نحو "بصراحة، أداؤك لا يعجبني"، ومثال المتقدم النصي على أية حال في نحو "على أية حال، حاول أن تعيد النظر في أدائك، وسترى".
2- الدراسات الصياتية والصرفية:
كان للوظيفيين اهتمام كبير بدراسة الأصوات فاق أي اهتمام آخر، وكان لهم الفضل في التمييز بين علم الأصوات، وعلم الصياتة، وهذا التركيز على الدراسات الصياتية لم يقتصر على أتباع مدرسة براغ بل ينطبق أيضا على مدرسة فيرث، ولاسيما في مراحلها المبكرة .[7] ولعل من الجدير بالذكر هنا أنه باستثناء الإسهامات التي قامت بها مدرسة براغ في مجالي النظرة الوظيفية للجملة، ونظرية الموضوع، والتعليق المشار إليهما سابقا فإن أفكارهم النحوية، والدلالية تجاوزتها التطورات التي قام بها اللسانيون الأمريكيون، أما إسهاماتهم في الصياتة فلا تزال مؤثرة في اللسانيات الأمريكية المعاصرة. ويعود تطوير النظرية الصياتية إلى رومان ياكبسون Roman Jakobson) (1896-1982) الذي صاغ فكرة العموميات universals، تلك الفكرة التي استفاد منه التوليديون في علم الصياتة التوليدي generative phonology. وفي صوغه لفكرة العموميات يعارض ياكبسون دوسوسو، وبواس في زعمهما بوجود نسبية بين اللغات، وأن كل لغة لها نظامها الخاص، فقد ذهب إلى القول بوجود اثنتي عشرة سمة مميزة موجودة في جميع اللغات. وسنرى في الحديث عن المدرسة التوليدية أن إنكار النسبية، والقول بالعموميات يوافق الأسس التي تقول بها المدرسة التوليدية.
وتحدث ياكبسون أيضا عن ضوابط عامة منتظمة تتصل بكيفية اكتساب الطفل بعض الأصوات، وكيفية فقدها عند الإصابة بمرض الحبسة aphasia الذي يؤدي إلى العجز عن نطق الأصوات، ومن بين ما يذكره ياكبسون في هذا المجال أن التمييز بين الصوامت الانفجارية، واللِّثوية (/b/، و/t/ مثلا) يسبق التمييز بين الصوامت اللهوية، واللثوية (/k/، و/t/ مثلا)، وهو ما يفسر المشكلة التي يعاني منها الطفل في نطق الكاف /k/ حين يحرفه إلى تاء /t/. ويتعلم الأطفال الصفات الانفجارية قبل الاحتكاكية أما آخر الصوامت التي يميز بينها الطفل فهما الراء /r/، واللام /l/. وعندما يفقد الإنسان القدرة على النطق على نحو تدريجي تكون التمييزات الأخيرة في تدرج النمو اللغوي عند الطفل أول ما يفقده، فإذا استعاد قدرته على النطق مرة أخرى كان ترتيب استعادة النطق معاكسا لترتيب الفقدان، وموافقا للطريقة التي يكتسب بها الطفل القدرة على التمييز بين الأصوات ابتداء.[8]
وربما كان من أهم إنجازات مدرسة براغ في مجال الدراسات الصياتية ما يسميه اللساني الروسي نيكولاي تروبتسكوي Nikolai Trubetzkoy (1890-1938) بالسمات المميزة distinctive features. وعلى الرغم من أن تروبتسكوي، وأتباعه في مدرسة براغ طبقوها على التحليل الصياتي phonological analysis فقد طبقها جاكبسون على علم الصرف، وأفاد منها النحاة التوليديون، والتحويليون إلى حد كبير، كما أفاد منها علماء الدلالة، ولاسيما في نظرية الحقول الدلالية semantic fields.
كان تروبتسكوي عضوا في حلقة براغ اللسانية، وعد كتابه مبادئ الصياتة Principles of Phonology الذي أكمله قبل وفاته بقليل المصدر الأساسي لإيضاح منهجه الوظيفي في دراسة الأصوات.
أولى تروبتسكوي اهتماما كبيرا بالعلاقات الاستبدالية بين الصيتات، فوازن بينها معتمدا في تمييز بعضها من بعض على السمات التي تميز إحداها من الأخرى. وأشار إلى أنواع من التقابلات التي تقع بين الصيتات نذكر منها:
(1) التقابل الخاص private opposition، وذلك حين يكون المميز بين الصيتتين سمة واحدة كما في التقابل بين التاء، والدال اللذين نقول في التمييز بينهما أن الدال /د/ مجهورة، والتاء /ت/ مهموسة.
(2) التقابل التدرجي gradual opposition، وذلك حين يكون الاختلاف بين الصيتات ناشئا عن سمة التدرج كما في الفرق بين الصيتة القصيرة الكسرة العربية، ومقابلتها الأطول ياء المد.
(3) التقابل المتكافئ equivalent opposition، وذلك حين يكون للصيتة سمة مميزة ليست في الصيتات الأخرى، كما في التاء /ت/، والكاف /ك/.
لم تكن الوظيفة التمييزية distinctive function الوظيفة الوحيدة التي اكتشفها تروبتسكوي، وأتباعه، بل ثمة أيضا الوظيفة المحدِّدة demarcative function التي تبين الحدود بين مبنى لغوي، وآخر في السلسلة الكلامية، وتعزز التماسك في المبنى اللغوي الواحد كي يبدو موحدا. وإذا كانت الوظيفة التمييزية تنشأ عن مقابلة الصيتات بعضها ببعض، فإن الوظيفة المحددة تنشأ عن استخدام السمات فوق المقطعية suprasegmental features التي تتعلق بسلسلة صياتية مكونة من صيتتين فأكثر، وذلك كالنبر stress، والنغمة tone، والطول length.[9] فالنبر مثلا يميز بين صيغة الاسم في الكلمة الإنجليزية import، وصيغتها الفعلية import (حيث يكون النبر في الاسم على المقطع الأول، وفي الفعل على المقطع الثاني). وهناك سببان لاعتبار هذه السمة فوق مقطعية، أو عروضية prosodic (كما يحلو للبعض أن يسميها): أولا: أن النبر مسألة تتعلق بطغيان (أو إبراز لـ) مقطع على المقاطع الأخرى التي تشترك معه في المبنى نفسه، أو في المباني المصاحبة له. وثانيا: أن التحقق الصوتي للنبر لا يمكن أن يوصف بأنه سابق، أو لاحق من الناحية الزمانية للتحقق الصوتي لما يحاذيه من عناصر صياتية أخرى، وفي هذا يختلف عن السمات المقطعية التي يمكن أن نقول فيها ذلك.[10] ومن القواعد فوق المقطعية في العربية التي يمكن أن تذكر هنا أن المقطع لا يبدأ إلا بصامت، وأنه لا يبدأ بصامتين متواليين، وأن النبر يقع على نهاية المقطع في الكلمات المكونة من مقطع واحد، وعلى نهاية المقطع الثاني في الكلمات المكونة من مقطعين.[11]
وإذا كان التقابل بين الصيتات يعبر عن اختلافها، واختلاف معاني الكلمات بناء على ذلك، فإن التقابل بين بعض التنوّعات الصوتية allophones للصية الواحدة قد يكون له وظيفة تعبيرية expressive function. فكلما ضاقت فتحة الصائتين /au/ في لهجة لندن عبر ذلك عن تدني مكانة المتكلم الاجتماعية.[12] وكذا فإن نطق الضاد دالا عند النساء في مصر (كما في كلمة "تفضّل") يعبر عن جنس المتكلم.