تأليف د محمد محمد يونس علي
البنيوية structuralism هي نسبة إلى كلمة بنية التي هي ترجمة لكلمة structure المأخوذة من الكلمة اللاتينية struere التي تعني بناء. وقد ارتبطت المدرسة البنيوية باللساني السويسري دو سوسور بعد دعوته المشهورة إلى التمييز بين الدراسات التعاقبية، والدراسات التزامنية، وتشديده على مفهوم البنية، والنظام في اللغة.
لم يكن دو سوسور معارضا للمنهج التاريخي في دراسة اللغة، بل إن تاريخه يشهد بأنه أمضى كل حياته تقريبا في دراسة اللغات، وتطورها معتمدا على هذا المنهج، ولكنه رأى أن اللغويين كثيرا ما يخلطون بين دراسة بنية اللغة في مرحلة زمانية معينة، ودارسة تاريخ تلك اللغة، وتطورها. ولكي يوضح دو سوسور تفريقه بين الدراسات التعاقبية، والدراسات التزامنية شبه اللغة برقعة الشطرنج حيث يتغير وضع الرقعة باطراد تبعا لكل نقلة يقوم بها أحد اللاعبيْن، وفي كل مرة يمكن أن نصف وضع الرقعة وصفا كاملا بتحديد مواقع قطع الشطرنج (يعني الملك، والوزير، والقلعة، والفيل، والبيادق)، وكذلك يمكن أن نفعل مع اللغة حيث يمكن وصفها في كل مرحلة زمانية من مراحلها.
وكما أنه في رقعة الشطرنج لا يهمنا في كل مرحلة من مراحلها ماذا حدث سابقا من نحو: الطريق الذي وصل به اللاعبون إلى كل وضع من أوضاع المباراة، وعدد النقلات السابقة، أو نوعها، أو ترتيبها، بل يمكننا أن نصف الوضع الحالي للمباراة وصفا تزامنيا دون الرجوع إلى كل ما سبق، فكذلك اللغة، فهي تتطور تطورا مطردا من مرحلة زمانية إلى أخرى، ولكننا نستطيع -بل يجب- أن نصفها في كل مرحلة دون الرجوع إلى ما كانت عليه سابقا، وبغض النظر عما يمكن أن تؤول إليه.[1]
إن متكلمي اللغة عندما يستخدمون كلمة ما، أو جملة ما لا يخطر في بالهم كيف كانت تستخدم تلك الكلمة، أو تلك الجملة، ولذا فإن الاستخدامات السابقة التي تنتمي إلى مرحلة تاريخية منقطعة عن المرحلة الحالية ليس لها تأثير في وضع اللغة الحالي. إن التأثير الذي ينبغي أن نوليه اهتمامنا هو الذي ينشأ عن علاقة العنصر اللغوي الذي يستخدمه المتكلم (أو الذي يصفه اللغوي) بالعناصر اللغوية الأخرى ذات الصلة بالعنصر المستخدم (أو الموصوف)، ولكي نوضح ذلك، يمكن أن نقارن بين نظام الألوان في اللغتين اليابانية، والعربية: فاللون الأزرق يتحدد بعلاقته بغيره من الألوان في اللغة الموصوفة، وهكذا فإن الأزرق في العربية يعني ما ليس أخضر، وليس أحمر، وليس أبيض إلخ، وهذا تعريف يختلف عن تعريفه في اليابانية؛ لأن الأزرق، وهو ما يعبر عنه اليابانيون بكلمة (أوي aoi) يطلق على ما نصفه في العربية بالأزرق، والأخضر معا؛ ولذا لا يمكننا القول أن الأزرق في العربية يقابل (أوي aoi) في اليابانية. وبناء على ذلك يمكن القول: إن تحديد كل لون في نظام الألوان يخضع لعلاقته بالألوان الأخرى، وهو يعني أننا نتعامل مع بنية متميزة محددة ليس للتاريخ فيها دور، كما أن كل العوامل الخارجية بما في ذلك ما تشير إليه الألوان في العالم الخارجي ليس له صلة مباشرة بتحديد ما يعنيه اللون الأزرق في اليابانية، أو العربية، بل المحدد هو علاقة الجزء بغيره من الأجزاء. ويمكن أن نضيف هنا أن كل لغة تتصور العالم الخارجي، ومحتوياته بطريقتها الخاصة، وهو ما يقوي فكرة دو سوسور في اعتباطية العلامة اللغوية بطرفيها الدال، والمدلول، ويؤكد من جهة أخرى –بناء على ذلك- صعوبة الترجمة من لغة إلى أخرى؛ إذ الترجمة -وفقا للمعطيات السابقة- ليست إعادة تسميات للأشياء بل إعادة تفكيك، وتركيب للعناصر اللغوية.
وما ينطبق على نظام الألوان ينطبق كذلك على نظام الضمائر مثلا، فالضمير أنتما في العربية يتحدد معناه بعلاقته ببقية الضمائر من خلال الموازنة بينه، وبين سائر الضمائر الأخرى، أما تاريخ الصيغة، وكيف تركبت عبر العصور الماضية، وعلاقتها بما هو خارج نظام العربية فليس له صلة بوصف نظام الضمائر في العربية.
إن تحديد نظام (أو بنية) الألوان في العربية لا ينحصر في العلاقات الاستبدالية القائمة بين الألوان المختلفة، بل يتحدد أيضا بعلاقة اللون بما يأتي قبله، أو بعده من كلمات؛ إذ يمكن وصف اللون الأحمر بأنه قانئ، ولكن لا يجوز أن نقول أبيض قان مثلا. وهكذا فإن تحديد المعنى المعجمي، أو القواعدي لعنصر لغوي معين إنما يكون بالنظر في علاقاته الاستبدالية، والائتلافية معا، وهي التي تؤلف البنية.
إن اللغة نظام نظري مجرد منفصل عن تاريخه، وعن الواقع الخارجي، غير أن هذا النظام المجرد يمكن أن يُجتلى، ويتحقق في الواقع الفعلي، ويرتبط بما هو خارج اللغة عندما ننقله من حيّز الوجود بالقوة إلى حيّز الوجود بالفعل عن طريق الكلام، أو الاستعمال، فعندما أقول "أنتما رجلان كريمان" لم يعد تحديد معنى كلمة أنتما في علاقتها بغيرها من الضمائر هي الوسيلة الوحيدة لفهم دلالتها، بل ينبغي أيضا معرفة ما يشير إليه الضمير في العالم الخارجي؛ أي معرفة الشخصين اللذين يقصدهما المتكلم، ولكن اللغوي الذي يصف العربية لا يهمه المقصود بـ(أنتما) في هذه القولة؛ لأن هذه مسألة لا علاقة لها بنظام (أو بنية) اللغة المجردة التي يوليها البنيوي كل اهتمامه. وبعبارة أخرى، فإن البنيويين –خلافا لعلماء التخاطب- يعنون باللغة لا بالكلام، أو الاستعمال. (راجع مبحث اللغة، والكلام (1، 5).
إن بنيوية دو سوسور تعني دراسة بنية (أو بنى) اللغة في حد ذاتها على نحو مستقل، ليس فقط بعزلها عن التاريخ، أو العالم الخارجي، بل أيضا عن نسيجها الاجتماعي التي تعيش فيه، والعمليات النفسية التي يقوم بها متكلموها عند فهمها، أو اكتسابها، ولذا فمن المناسب جدا أن تكون الدراسات البنيوية مقتصرة فقط في إطار اللسانيات على اللسانيات المضيقة microlinguistics.[2]
ومن الأسماء التي تذكر عادة في مسرد أعلام المدرسة البنيوية اللساني المشهور هيلمسلف Hjelmslev الذي تأثر كثيرا بدو سوسور لاسيما في عنايته بالمباني (أو الأشكال) على حساب الجوهر (أو المحتوى، والمادة)، وحاول أن يطور أفكاره البنيوية فيما عرف عنه بالتأويلات glossematics، ونتيجة لصعوبتها، وطبيعة مصطلحاتها غير المتجانسة لم تنل تلك الأفكار الاهتمام الذي تستحق. ومن الانتقادات التي وجهت لتأويلات هيلمسلف أنها نسخة نظرية، وشخصية للسانيات دي سوسور غير أنه طبقها على نحو فيه مغالاة منطقية.[3]
وربما كان من المفيد أيضا التنبه على أنه بينما اهتمت البنيوية الأوروبية بزعامة دو سوسور بالعلاقات الاستبدالية، كان البنيويّون الأمريكيّون يولون عنايتهم بالعلاقات الائتلافية، ويعود هذا إلى أسباب منهجية سنوضحها فيما بعد.
تميزت البنيوية الأمريكية بالصرامة العلمية، والمنهجية، ويرجع هذا إلى رائدها بلومفيلد الذي كان متأثرا إلى حد كبير بعالم النفس السلوكي واطسن Watson. وقد شرح بلومفيلد منهجه في الدراسات اللسانية في كتابه : "اللغة" “Language”، وكان أحد ثلاثة لسانيين بارزين في اللسانيات الأمريكية في الثلث الأول من القرن العشرين، والآخران هما فرانز بواز، وإدوارد سابير اللذان عرفا باهتمامهم باللسانيات الموسعة بدلا من الاقتصار على اللسانيات المضيقة. وقد انعكس هذا في التطرق للمباحث الأدبية، والفنية، والإناسية، والنفسية، وبيان الصلة بين هذه المباحث من جهة، والمباحث اللسانية من جهة أخرى.[4]
دعا بلومفيلد إلى إبعاد دراسة المعنى من الوصف اللغوي بسبب صعوبة البحث فيه بحثا موضوعيا، ومع أن بلومفيلد لم يقلل من شأن دراسة المعنى، أو يدعو إلى عدم دراسته غير أن تعليقاته في هذا الموضوع لم يحملها الكثير من اللسانيين على المحمل الذي كان يقصده، فأدى ذلك إلى إعراض جيل من اللسانيين عنه[5] في الربع الثاني من القرن العشرين، وربما كان هذا أحد أسباب تخلف البحث الدلالي عن نظائره من فروع اللسانيات الأخرى.
وقد يكون من نتائج الاتجاه البلومفيلدي نحو العناية بالبنية، وإبعاد المعنى أن بدأ اللسانيون يميلون إلى الوصف القواعدي لبنية الجملة، فشاع عندهم ما يعرف بتحليل البنية المكوّنة الطارئة immediate constituent analysis الذي تربط فيه المصرّفات بعضها ببعض في مشجّرات. وقد مهد ذلك لظهور التوزيعيين distributionalists الذين أخذ الوصف اللغوي عندهم طابع العناية بالعلاقات التوزيعية بين الصيتات phonemes في المركبات المتألفة منها وبين المصرفات morphemes في المركبات المتألفة منها.[6]، وعلى الرغم من أن هاريس Harris قد تمكن من تطوير جوانب من اللسانيات البنيوية فقد شاع إطلاق البنيوية حصرا على التحليل اللغوي الذي نظّر له بلومفيلد.[7]
l