تأليف د محمد محمد يونس علي
يقصد بالمدرسة التوليدية Generativism مجموعة النظريات اللسانية التي وضعها، وطورها اللساني الأمريكي المشهور ناعوم تشومسكي Noam Chomsky (المولود سنة 1928)، وأتباعه منذ أواخر الخمسينيات، وقد امتد تأثيرها ليشمل (إضافة إلى حقل اللسانيات) مجالات أخرى كالفلسفة، وعلم النفس، وتعتمد هذه المدرسة في مناهجها على استخدام ما يعرف بالقواعد التوليدية، وبلغ تأثيرها في النظريات النحوية حدا يمكن معه القول بأن النحو التوليدي هو النحو السائد في الدراسات اللسانية إبان الأربعين سنة الأخيرة. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن الاعتقاد السائد بين معظم اللسانيين في العقود الثلاثة الماضية هو أن جودة نظرية نحويةٍ ما تقاس بمدى التزامها بالأصول التي ابتدعها التوليديون.
لقد شاع وصف سنة 1957 (وهي السنة التي نشر فيها كتاب البنى النحوية Syntactic Structures لتشومسكي) بأنها نقطة تحول في لسانيات القرن العشرين، غير أنه من العدل أن نقول: إن بعض اللسانيين يرون أن سنة 1959 هي السنة الأكثر أهمية، وذلك عندما رفض تشومسكي –في مراجعة لاذعة- النهج السلوكي في استخدام اللغة بوصفه نتاجا غير مقبول للتجريبية الصارمة في المدرسة السلوكية البلومفيلدية. فقد تحدى تشومسكي الأساس الفلسفي لما عرف "بالقانون البلومفيلدي" Bloomfieldian canon. ومنذ 1957 كادت التطويرات اللسانية جميعها تكون نتيجة لإعادة النظر، أو للتعديلات في آراء تشومسكي ليس أقلها تغييراته الخاصة في نظريته اللسانية. وهكذا يمكن أن يعد النصف الثاني من القرن العشرين عصر النحو التوليدي التحويلي.[1]
إن الفكرة الأساسية التي توجّه المنهج التوليدي هو سمة الإنتاجية في اللغة التي بمقتضاها يستطيع المتكلم أن يؤلف، ويفهم جملا جديدة غير متناهية لم يسبق له أن سمعها من قبل، وهي السمة التي تميز الإنسان من الآلات، والحيوانات. فإذا كان الأطفال قادرين على استخدام جمل جديدة يعدها الكبار سليمة في صوغها well-formed فذلك يعني أن هناك شيئا آخر يتجاوز مجرد محاكاة الجمل التي سمعوها من الكبار، وهو أنهم يولدون بقدرة لغوية تمكنهم من ذلك. فإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن ندرس تلك القدرة التي تمكن المتكلم من إحداث جمل جديدة، وفهمها، بدلا من أن نوجه اهتمامنا إلى جمع المادة اللغوية من أفواه المتكلمين؛ لأنه مهما توسعنا في جمع المادة اللغوية فإننا نعجز عن تغطية كل المادة التي نحتاجها، بل ربما حتى القدر الكافي منها.
وبقدر ما ننجح في اكتشاف القواعد التي يعتمد عليها المتكلمون في صوغ التراكيب فإننا نتمكن من تقديم تفسير مرض علميا لخصيصة الإنتاجية في اللغة.[2]
1- النحو التوليدي:
يطلق مصطلح النحو التوليدي generative grammar على "طائفة من القواعد التي تحدد أنواعا مختلفة من أنظمة اللغة"، وبعبارة اصطلاحية أدق هو "طائفة من القواعد التي تطبق على معجم محدود من الوحدات فتولد مجموعة (إما محدودة، أو غير محدودة) من الائتلافات (المكونة من عدد محدود من الوحدات) بحيث يمكن بهذه القواعد أن نصف كل ائتلاف بأنه سليم في صوغه well-formed في اللغة التي يصفها النحو".[3] ولكي نوضح هذه النقطة أقول: إن ما يحدث عند صوغ الجملة رقم (1) هو أنه لدينا مجموعة من الوحدات اللغوية منها ما هو قواعدي مثل (ال) في (المثابرون)، وصيغة فَعَل في (فاز)، ومنها ما هو معجمي مثل (ث ب ر) التي تكون المعنى المعجمي لكلمة (المثابرون)، و(ف و ز) المكونة للمعنى المعجمي لكلمة (فاز). ونظرا إلى كوننا قادرين على صوغ جمل عربية بحكم معرفتنا بقواعدها، فقد طبقنا مجموعة من القواعد الصياتية، والصرفية، والنحوية لتوليد الجملة (1).
(1) فاز المثابرون.
ومن القواعد الصياتية، والصرفية التي طبقناها على هذه الجملة:
1- أن وضع الوحدة المعجمية (ف و ز) في صيغة فَعَلَ للدلالة على أن الفعل حدث في الزمن الماضي يتطلب أن تحذف الواو؛ لأنها وقعت بين فتحتين (ف ـَ و ـَ ز ـَ)، ثم توالت الفتحتان بدون فاصل بينهما، فكوّنتا الألف.
2- أن وضع الوحدة المعجمية ) (ث ب ر) في صيغة فاعِل للدلالة على من وقع منه الفعل لم يترتب عليه إبدال صياتي.
3- أن تعريف الفاعل (بدلا من تنكيره) ترتب عليه إلصاق السابقة (ال) في بداية كلمة (المثابرون) دون وضعها في أي مكان آخر، وعدم إدغام اللام في الميم التي تليها؛ لأن (ال) هنا شمسية، وليست قمرية.
ومن القواعد الصرفية النحوية التي طبقت لتوليد هذه الجملة عدم إلحاق ضمير الجماعة بالفعل فاز في مثل هذا التركيب، وضرورة استخدام اللاحقة (ون) للدلالة على الجمع، والفاعلية، وإثبات النون لعدم وجود مضاف إليه.
وبعد تطبيق هذه الطائفة من القواعد على هذا المعجم المحدود من الوحدات (وهو مجموع الوحدة المعجمية (ف و ز)، وصيغة الفعل (فعل)، و(ال)، والوحدة المعجمية (ث ب ر)، وصيغة فاعل، واللاحقة (ون)) تولدت مجموعة من الائتلافات منها مثلا (فاز)، و(مثابر)، و(المثابر)، و(المثابرون)، و(فاز المثابرون). ولكي نتأكد من سلامة صوغ كل ائتلاف من هذه الائتلافات، ونسمح لأنفسنا بالحكم بصحة ما قلناه فعلينا أن نعود إلى القواعد الصياتية، والصرفية، والنحوية المذكورة سابقا، وهي قواعد تنتمي إلى النحو العربي لأننا نصف جملة من جمل العربية.
يتولى النحو التوليدي أيضا تخصيص وصف بنيوي structural discription مناسب لكل ائتلاف من هذه الائتلافات، وكل اختلاف في بنية الائتلاف المدروس ينبغي أن يظهر على شكل اختلاف في الوصف البنيوي المرتبط بتلك البنية.
ومن المهم أن ننبه هنا على أن التوليديين لا يصفون جملا مدونة من المادة اللغوية التي استخدمها المتكلمون بالفعل، بل يصوغون جملا مفترضة باتباع منهج التوليد، ثم ينظرون في واقع اللغة (بالرجوع إلى حدس اللغوي عادة)، ويتساءلون عما إذا كانت الجملة المولدة بمنهج رياضي مطابقة لقواعد اللغة بالفعل؛ أي هل كان صوغها سليما؟، ومن هنا يأتي مصطلح السلامة اللغوية well-formedness. وهكذا فإنهم يعاملون اللغة الطبيعية معاملة اللغات الصورية formal languages المخترعة، وهو أمر لا يوافق عليه كثير من اللسانيين.[4]
وقد ترتب على هذا المنهج التجريدي في دراسة اللغة استخدام مصطلحات مثل المتحدث المثالي ideal speaker/hearer الذي ليس له وجود في الواقع اللغوي، بل يفترضه اللساني اعتمادا على حدسه intuition، وكفايته اللغوية linguistic competence أي معرفته بقواعد لغته، ومعجمها.
وفي البداية سمي النحو التحويلي التوليدي transformational-generative grammar قواعد التحويلات (T-rules) لتحديد الجمل الأكثر قبولا من الناحية القواعدية في لغة ما. وفي كتاب تشومسكي "البنى النحوية" أخذ النحو شكلين: التحويلات الإجبارية مثل الإلصاق affix hopping الذي يولد به المبنى السليم للجملة؛ والتحويلات الاختيارية لتحويل جمل مثبتة مثلا إلى جمل منفية، أو استفهامية.
وفي العقود الأربعة اللاحقة بدأ تطوير دور التحويلات بإقحام فكرة البنية العميقة، الأمر الذي أدى تدريجيا إلى شيوع مصطلح النحو التوليدي بدلا من النحو التحويلي إلى أن اختفى المصطلح الثاني، وصارت النظرية التشومسكية تعرف باللسانيات التوليدية.[5]
2- افتراض بنية عميقة:
درج النحاة التوليديون على افتراض بنى عميقة deep structures للائتلافات اللغوية يحكمها منطق اللغة الذي يفترضون أن كل متكلمي اللغة يرثونه من آبائهم، ففي كل لغة يمكن افتراض بنية تعبر عن وقوع فعل ما من فاعل ما يقع على مفعول به، ومن الممكن منطقيا أن يعبر عن هذه الفكرة المنطقية بمناويل لغوية مختلفة؛ إذ يمكن للمتكلمين تجسيد هذه الفكرة المنطقية في صورة (فاعل – فعل – مفعول به)، أو ( فاعل - مفعول به – فعل)، أو (فعل - فاعل - مفعول به)، أو (فعل – مفعول به – فاعل)، أو (مفعول به- فعل –فاعل)، أو (مفعول به -فاعل – فعل)، غير أن هذه الاحتمالات الممكنة منطقيا ليست موجودة كلها في واقع اللغات، بل كل لغة تضع قيودا تمنع وقوع بعض (أو ربما أغلب) هذه الاحتمالات. وبذلك فإن النحاة التوليديين ينطلقون من منطلق أن الأصل في تكوين الائتلافات اللغوية الإباحة ما لم تمنعه قواعد اللغة. فإذا حاولنا أن نعبر عن الفكرة المنطقية السابقة باللغة العربية فسنجد أنه من الممكن أن نقول:
(1) خالد ضرب سعيدا ممكن
(2) *خالد سعيدا ضرب[6] غير ممكن
(3) ضرب خالد سعيدا ممكن
(4) ضرب سعيدا خالد ممكن
(5) سعيدا ضرب خالد ممكن
(6) سعيدا خالد ضرب ممكن
وما نلاحظه عن الجمل السابقة أن اختيار خالد ليكون الفاعل المنطقي، وسعيد ليكون المفعول به أتاح أكبر احتمالات ممكنة، فإذا غيرنا ذلك إلى عيسى (ليكون الفاعل المنطقي)، وموسى (ليكون المفعول به) فالاحتمالات ستقل.
(1) عيسى ضرب موسى ممكن
(2) *عيسى موسى ضرب غير ممكن
(7) ضرب عيسى موسى ممكن
(Cool *ضرب موسى عيسى غير ممكن
(9) *موسى ضرب عيسى غير ممكن
(10) *موسى عيسى ضرب غير ممكن
ومن المهم هنا أن ندرك أن عملية التوليد، وتقليب الاحتمالات لا يمثل ما يقوم به المتحدث عندما يتكلم، بل هو عملية رياضية دقيقة يقوم بها اللساني عند ممارسته النحو التوليدي.
3- اختلاف البنية العميقة عن البنية السطحية:
عندما ننظر في كثير من الجمل تبدو لنا مختلفة، ولكن إذا نظرنا في بناها العميقة نجد أنها واحدة. ولعل الصورة المثلى في كل اللغات أن تتفق بناها العميقة مع بناها السطحية، ولكن هذا لا يكاد يحدث في الواقع اللغوي. تأمل الأمثلة الآتية:
(1) أفضل ثوب الحرير.
(2) أفضل كتاب الأستاذ.
(3) أفضل نوم الليل.
(4) البيت سُرق.
(5) البيت اشتريته.
(6) البيت نمت فيه.
(7) البيت بعت أثاثه.
(Cool قام زيد.
(9) مات زيد
عند التأمل في الأمثلة (1)، و(2)، و(3) نلاحظ أنها مشتركة في بنياتها النحوية الخارجية لكونها جميعا تتألف من فعل، وفاعل، ومفعول به، ومضاف إليه. ولكن عندما نوازن بين علاقة المضاف بالمضاف إليه في كل منها نجد أن المعنى مختلف. ففي المثال الأول نجد أن الإضافة بمعنى من؛ أي أن المقصود الثوب الذي من حرير، وفي المثال الثاني نجد أن الإضافة بمعنى اللام، فيكون المراد حينئذ: الكتاب الذي للأستاذ، وفي المثال الثالث تفسر بكونها بمعنى في، ويكون المقصود –بناء على ذلك، النوم الذي في الليل.
أما في المجموعة الثانية، وهي الجمل من (4) إلى (7) فإن كلمة البيت تعرب مبتدأ، ولكنها محولة في الواقع من بنى عميقة تظهر عند إرجاعها إلى مواقعها الأصلية:
4- سرق البيت.
5- اشتريت البيت.
6- نمت في البيت.
7- بعت أثاث البيت.
وأما المثالان (Cool، و(9) فيظهران كيف أن اتفاق الشكل الخارجي المتمثل في وقوع كلمة (زيد) فاعلا فيهما لا يعني أن بنيهما العميقة واحدة؛ لأن معنى الأول فعل زيد القيام في حين أن الثاني يعني حل الموت بزيد.
وكما تتفق البنى السطحية مع اختلاف البنى العميقة قد تتفق البنى العميقة، وتختلف البنى السطحية كما في المثالين الآتيين:
(10) لست بناجح.
(11) لست ناجحا.[7]