معنى الإحالة في اصطلاح علماء لسانيات النص*
د. أنس بن محمود فجّال
center][size=18]
نقصد بمصطلحِ الإحالةِ هنا ما يُعرفُ في اللغة الإنجليزية بـ( Reference ) ، وربّما تُرجم هذا المصطلح بـ( الإشارةِ ) . ويرى د. محمد يونس أنه لا ضيرَ في ذلك من النّاحية اللُّغوية ، بيد أنّه قد يسبّب مشكلة اصطلاحية ومنهجية، لالتباسه بما يعرف في العربية بأسماء الإشارة التي هي أداة من أدوات الإحالة، ومن هنا يمكنُ القولُ بأنّ العلاقةَ بينَ الإحالةِ والإشارةِ علاقةُ عامّ بخاصّ، إذ كلُّ إشارةٍ إحالةٌ وليست كلُّ إحالةٍ إشارةً([1]).
والإحالةُ مصطلحٌ قديم ، لكن بالتوسّع في استعماله في علم اللغة النصّي يكون مصطلحًا جديدًا ، ولم يتّفق اللغويون النصّيون على تعريف مُوحّدٍ له ، لذا سأبسُطُ القولَ في بيانِ مفهومِهِ لدى العلماء ؛ لنستخلصَ ممّا طرحوه مصطلحًا للإحالة يقرب من فهم الجميع.
ذهب هاليداي ورقية حسن إلى أنّ الإحالةَ علاقةٌ دلالية لا تخضع لقيود نحوية ، بل تخضع لقيد دلالي ، وهو وجوب تطابق الخصائص الدلالية بين العنصر المحيل والعنصر المحال عليه([2])، كما تشير إلى عملية استرجاع المعنى الإحالي في الخطاب مرّة أخرى . فيقع التماسك عبر استمرارية المعنى([3]). وقد أشارا بذلك إلى وظيفة مهمة من وظائف الإحالة وهي الاستمرارية التي تتحقق من خلال سماح الإحالة لمستخدمي اللغة بحفظ المحتوى مستمرًّا في المخزون الفعّال من دون الحاجة إلى التصريح به مرّة أخرى .
« والعناصر المحيلة عندهما كيفما كان نوعها لا تكتفي بذاتها من حيث التأويل ، إذ لا بدّ من العودة إلى ما تشير إليه من أجل تأويلها »([4]).
وهذه العناصر الإحالية هي ما تطرّق إليها ميرفي ( Murphy ) في أثناء تعريفه للإحالة ، إذ يقول : هي « تركيب لغوي يشير إلى جزء ما ذُكر صراحة أو ضمنًا في النص الذي سبقه »([5]).
وأشار دي بوجراند في تعريفه للإحالة (Reference) إلى أنّها : « العلاقات بين العبارات ، والأشياء والأحداث والمواقف في العالم الخارجي الذي تشير إليه العبارات ذات الطابع البدائلي في نصّ ما »([6]).
وجاء في تعريفِ جون لاينز - الذي أشار إليه براون ويول - قولُهُ في سياقِ حديثه عن المفهوم الدلالي التقليدي للإحالة : «إنّ العلاقةَ القائمةَ بين الأسماء والمسميات هي علاقة إحالة ، فالأسماء تُحيل إلى المسميات »([7]).
ونلحظ أنّ هذا التعريف هو أقرب إلى مصطلح ( الإشارة ) منه إلى ( الإحالة ) .
ويشيران إلى أنّ هذا المفهوم التقليدي لا يزال شائعًا في الدراسات اللغوية التي تصف العلاقة بين لغة ما والكون ، ويعترضان على عدم ذكر جون لاينز شيئًا عن مستعمل اللغة في هذا التعريف ، غير أنّه استدرك ذلك فيما بعد قائلًا : « إنّ المتكلّم هو الذي يُحيل باستعماله لتعبير مناسب ، أي أنّه يُحمّل التعبير وظيفة إحاليّة عند قيامه بعمليّة إحالة » ([8]).
فالمتكلم أو الكاتب هو الذي يحمّل التعبير دلالة تكشف عن وظيفة إحالية، ولهذا يقول ستروسن: إنّ الإحالة ليست شيئًا يقوم به تعبيرٌ ما ؛ ولكنها شيء يمكن أن يحيل عليه شخصٌ ما باستعماله تعبيراً معينًا.
وكذلك في نظر سيرل حيث يشير إلى أننا إذا كنا نعني أنّ المتكلمين يحيلون ، فإنّ التعبيرات لا تحيل أكثر من أنّ هؤلاء المتكلمين يصدرون وعوداً وأوامر([9]).
ومن هنا خَرَجَ بروان ويول بنتيجةٍ مؤدّاها أنّه « في تحليلِ الخطاب يُنظرُ للإحالة على كونها عملًا يقومُ به المتكلّمُ أو الكاتبُ »([10]) .
وهذا الكلام وإن كان صواباً لكننا لا نستطيع إغفال دور اللفظ الذي يحمل المعنى، فاللفظ هو الذي يحيل في نهاية الأمر بقصد المتكلم أو الكاتب، إذ دورُ الكاتبِ رئيسٌ لاشك، فهو الذي ينشئ النص، وهو الذي يحمّل الألفاظ دلالتها، ويستطيع أن يخرج بها عن طبيعتها، لكنّه في النهاية لابُدّ أن يستعمل تلك الألفاظ الدالة على الإحالة، ومن دونها لن تستقيم الإحالة، ومن هنا لا نقلّلُ من دورِ اللفظِ الذي يحملُ الإحالةَ، ومن الضروري أن نحكم له بأنّه عنصرٌ مُهمٌّ من عناصرِ الإحالةِ .
وفي الإحالةِ يشيرُ الكاتبُ أو المتكلمُ إلى أنّ حَدَثًا ما أو شيئًا ما ارتبطَ بشيءٍ آخر، تقدّمَ أو سيأتي ذِكرُه، لكن لن يذكره الكاتبُ في هذا الموقف، بل يُكَنِّي عنه بلفظٍ مبهمِ الدِّلالة مثلَ الضميرِ أو اسمِ الإشارةِ أو الموصولِ، دون ذكرِهِ صراحةً.
ويرى سيمون ديك ( Dik,S.C ) أنّ الإحالة هي « فعلٌ تداوليٌّ تعاونيٌّ بين متكلّم ومخاطَب في بِنْيَةٍ تواصُليّةٍ مُعيَّنة وفقا للنموذج الآتي : يُحيلُالمتكلّمُ المُخاطَبَ على ذاتٍ بواسطةِ حدٍّ »([11]).
فالإحالةُ فعلٌ تداولي؛ لأنّهاترتبط بموقفٍ تواصليّ معيّن، أي بمخزون المُخاطَب كما يتصوّره المتكلّم في أثناءالتّخاطُب.
والإحالةُ على ذاتٍ ما تتمُّ بواسطةِ حدٍّ لُغويّ كالضّميرِ أوالاسمِ أو المركّب الاسميّ وفقًا لتقدير المتكلّم للإمكاناتِ المُتاحَة للمُخاطَبللتّعرّف على الذّات المُعيّنة بالإحالة.
والإحالة عمليّة تعاونيّة نسبةً لمبدأ التعاون كما يحدّده جرايس( 1975م )، لأنها تستهدف تمكين المُخاطَب من التعرّف علىالذّاتِ المقصودة، ويتمّ ذلك عن طريق إمداد المخاطَب بكلّ المعلوماتِ التي يمتلكهاالمتكلّم عن الذّات المقصودة([12]).
أمّا تنيير( L. Tesniere ) فقد قدّم تصوّرًا خاصًّا للإحالة ، إذ إنّ دراسة العلاقات الإحاليّة في النصّ تثير البنية فيها ، فالإحالة ربطٌ دلالي إضافي ، لا يطابقه أي ربط تركيبي ، ثمّ يعدل عن ذلك إلى قوله : وتقوم كلّ إحالة على نوعين من الرّبط الدلالي :
1 – ربط دلالي يوافق الربط البنيوي ( التركيبي ) .
2 – ربط دلالي إضافي يمثّل الإحالة ، وهو الربط الإحالي ( Connexion anaphorique ) .
وهو الذي يمدّ جسور الاتصال بين الأجزاء المتباعدة في النص ، إذ تقوم شبكة من العلاقات الإحاليّة بين العناصر المتباعدة في فضاء النص ، فتجتمع في كلّ واحد عناصرُه متناغمةً .
بيد أنّ كلماير ( Kallmeyer ) يقدّم تصوّرًا أكثر وضوحًا ، إذ يذهب إلى أنّ الإحالة هي العلاقة القائمة بين عنصر لغوي يطلق عليه: ( عنصر علاقة ) ، وضمائر يطلق عليها: ( صيغ الإحالة ) . وتقوم المكوّنات الاسميّة بوظيفة عناصر العلاقة أو المفسّر أو العائد إليه ، ويمكن أن يسمّى أيضًا ( عنصر إشارة ) .
ويرى كذلك أنّ الضمائر ( للشخص الثالث الغائب ) ليست وحدها هي التي تقوم بوظيفة ( صيغ الإحالة ) ، بل ثَمّةَ عناصر لغوية أخرى مركّبة من ( أداة + اسم ) تقوم أيضًا بتلك الوظيفة ، من خلال توسيع المركب القضوي ( الإحالة ).
وكلّما اتّسع مفهوم الإحالة زادت العناصر القائمة بتلك الوظيفة ، مثل : هناك ، وتبعًا لذلك ، وحيث ، وإذ ... التي تعدّ في النحو التقليدي من الظروف ([13]).
ويخلص كلماير إلى نتيجة مهمّة في هذا السياق، وهي: أنّ بحث قواعد وقوع صيغ الإحالة لا يمكن أن يجري على سلسلة من عناصر لغوية، تتضمّن – في الأقل – العناصر المشكلة في كلّ علاقة إحالة، وهي عنصر العلاقةوصيغة الإحالة التابعة له.
وتضمّ هذه السلسلة – في العادة – مع الاتجاه الخلفي للإحالة ( القبلية ) أكثر من جملة ، ومع الاتجاه الأمامي للإحالة ( البعدية ) يبدو – على العكس من ذلك – في حالات كثيرة أنّ الاقتصار على الجملة بوصفها وحدة بحث ، يكون مشروعًا أو ضروريًّا ([14]).
ومن التعريفات البسيطة للإحالة ما ذهب إليه بوهوميل ﭘـاليك ( Bohumil Palek ) بأنّها : أي تعبير لغوي يتعلّق بتعبير لغوي آخر في النصّ([15]).
وتناول بعضُ المؤلفين موضوعَ الإحالة، لكنهم لم يذكروا شيئًا عن تعريفها، منهم الأزهر الزناد الذي وضع عنوانًا هو : ( في مفهوم الإحالة) ([16]) من دون أن يتناول مفهومها؛ فبدأ بالكلام عن عناصرها وأنواعها ؛ ثم عقد فصلًا مستقلًّا بعنوان: (البنية الإحالية في النّصوص) من غير الإشارة إلى مفهومها أيضًا.
ويرى الزنّاد أنّ العناصر الإحالية تطلق على قسم من الألفاظ التي لا تملك دلالة مستقلّة ، بل تعتمد على عنصر معيّن آخر في النصّ ، فالأوّل يفترض الثاني ، حيث لا يمكننا فكّ شفرته إلّا بالعودة إلى الثاني ؛ وذلك من أجل تفسيرها وتأويلها وفهمها حتّى يتمّ اتساق النصّ . فشرط وجود هذه العناصر هو النص من جهة ، ومعرفة ما تشير إليه أو تعوّضه تلك العناصر الإحالية من جهة أخرى . وهي تقوم على مبدأ التماثل بين ما سبق ذكره في مقام ما ، وبين ما هو مذكور بعد ذلك في مقام آخر ، ممّا يجعلها تتميّز بالإحالة على المدى البعيد (Cross - Reference )([17]).
وهو التعريف نفسه الذي أورده بوهوميل ﭘـاليك .
وكذلك محمد خطابي([18]) الذي أورد مصطلح الإحالة مفرّغًا من التعريف، فبعد عنوان الإحالة أشار إلى استعمال المصطلح استعمالًا خاصّاً، ثم دلف سريعًا إلى العناصر المحيلة وتأويلها.([19])
أمّا د. تمام حسّان فيرى أنّ الإحالة هي : « أن يشير عنصر لاحق إلى عنصر آخر سابق في سياق النص »([20]) أو : « إشارة الدال إلى المدلول بصورة ما من صور اللفظ»([21]) وهذا العنصر اللاحق أو الإشارة اللفظية تتحقّق به الإحالة عن طريق «إعادة ذكره ، أو إعادة معناه ، أو الإضمار له ، أو بالإشارة إليه ، أو وصفه بموصول أو صفة ، أو إلحاقه بالألف واللام نيابة عن ذلك»([22]).
ويلحظ أنه ركّز في تعريفه على ذكر وسائل الإحالة وأدواتها .
ومن خلال ما سبق نحاول وضع تعريف شاملٍ للإحالة فأقول: إنّها عملية معنويّة ، ينشؤها المتكلِّمُ في ذهنِ المخاطَب ، عن طريق إيراده ألفاظًا مبهمةَ الدِّلالة ، يشيرُ بها إلى أشياء أو مواقف أو أشخاص أو عبارات أو ألفاظ خارج النصّ أو داخله، سابقة عليها أو لاحقة ، في سياق لغوي أو غير لغوي ، يقصد بذلك الاقتصادَ في اللفظ، وربطِ اللاحق بالسابق والعكس ، بما يحقق الاستمرارية والتماسك في النصّ.